43ـ الاجتماع بأهل البرزخ مناما

43ـ الاجتماع بأهل البرزخ مناما

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ سَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ في كِتَابِهِ (الإِيمَانِ بِعَوَالِمِ الآخِرَةِ وَمَوَاقِفِهَا):

وَأَمَّا الاجْتِمَاعُ بِأَهْلِ البَرْزَخِ مَنَامًا فَهُوَ أَمْرٌ حَقٌّ كَثِيرُ الوُقُوعِ، وَفِيهِ مِنَ الفَوَائِدِ وَالعَوَائِدِ مَا فِيهِ، وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ أَيْضًا:

إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ رَغْبَةٍ مِنَ النَّائِمِ وَهَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ، أَو عَنْ رَغْبَةٍ مِمَّنْ هُوَ في عَالَمِ البَرْزَخِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا جَاءَ في قِصَّةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَدْ رَوَاهَا الإِمَامُ البَغَوِيُّ، وَابْنُ المُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالحَاكِمُ وَغَيْرُهُمْ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَلَقِيتُ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ قُلْتُ: حَدَّثْنِي حَدِيثَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: قُمْ مَعِي، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى امْرَأَةٍ.

فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: هَذِهِ ابْنَةُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَاسْأَلْهَا عَمَّا بَدَا لَكَ.

فَقُلْتُ لَهَا: حَدِّثِينِي ـ أَيْ: عَنْ أَبِيكِ ـ.

فَقَالَتْ: سَمِعْتُ أَبِي لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ تعالى عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ الْآيَةَ. دَخَلَ بَيْتَهُ، وَأَغْلَقَ بَابَهُ، وَطَفِقَ يَبْكِي، فَفَقَدَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَا شَأْنُ ثَابِتٍ؟!».

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا نَدْرِي مَا شَأْنَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَ بَيْتِهِ، فَهُوَ يَبْكِي فِيهِ.

فَأَرْسَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ: «مَا شَأْنُكَ؟».

قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ وَأَنَا شَدِيدُ الصَّوْتِ، وَأَخَافُ أَنْ أَكُونَ قَدْ حَبِطَ عَمَلِي.

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَسْتَ مِنْهُمْ، بَلْ تَعِيشُ بِخَيْرٍ، وَتَمُوتُ بِخَيْرٍ».

قَالَتْ: ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾. فَأَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ، وَطَفِقَ يَبْكِي فِيهِ.

فَافْتَقَدَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «مَا شَأْنُ ثَابِتٌ».

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا نَدْرِي مَا شَأنُهُ غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ، وَطَفِقَ يَبْكِي.

فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَا شَأْنُكَ؟!».

قَالَ: يَا رَسُولَ الله، أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾. وَاللهِ إِنِّي لِأُحِبُّ الْجَمَالَ، وَأُحِبُّ أَنْ أَسُودَ قَوْمِي.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَسْتَ مِنْهُمْ، بَلْ تَعِيشُ حَمِيدًا، وتقتل شهيدًا، ويدخلك اللهُ الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ».

قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْيَمَامَةِ خَرَجَ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ ـ أَيْ: مُجَاهِدًا ـ فَلَمَّا لَقِيَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَدِ انْكَشَفُوا، قَالَ ثَابِتٌ لِسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ أَحَدِ قُرَّاءِ الصَّحَابَةِ بِالصَّوْت الحَسَنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ قَالَ لَهُ ثَابِتٌ: مَا هَكَذَا كُنَّا نُقَاتِلُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ حَفَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُفْرَةً فَحَمَلَ عَلَيْهِمُ الْقَوْمُ فَثَبَتَا حَتَّى قُتِلَا.

وَكَانَتْ عَلَى ثَابِتٍ دِرْعٌ لَهُ نَفِيسَةٌ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَخَذَهَا، فَبَيْنَا رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ نَائِمٌ إِذْ أَتَاهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ فِي مَنَامِهِ فَقَالَ: إِنِّي أُوصِيكَ بِوَصِيَّةٍ، إِيَّاكَ أَنْ تَقُولَ هَذَا حُلْمٌ فَتُضَيِّعَهُ، إِنِّي لَمَّا قُتِلْتُ أَمْسِ مَرَّ بِي رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَخَذَ دِرْعِي وَمَنْزِلُهُ أَقْصَى الْعَسْكَرِ، وَعِنْدَ خِبَائِهِ فَرَسٌ يَسْتَنُّ فِي طِوَلِهِ، وَقَدْ كَفَأَ عَلَى الدِّرْعِ بُرْمَةً ـ أَيْ: قِدْرًا ـ وَجَعَلَ فَوْقَ البُرْمَةِ رَحْلًا، فَائْتِ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ـ قَائِدَ الجَيْشِ ـ فَمُرْهُ أَنْ يَبْعَثَ إِلَى دِرْعِي فَيَأْخُذَهَا، فَإِذَا قَدِمْتَ عَلَى خَلِيفَةِ رَسوُلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ أَبِي بَكْرٍ ـ فَأَخْبِرْهُ أَنَّ عَلَيَّ مِنَ الدَّيْنِ كَذَا وَكَذَا، وَلِي مِنَ الدَّيْنِ كَذَا وَكَذَا، وَفُلَانٌ رَقِيقِي عَتِيقٌ، وَفُلَانٌ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَقُولَ هَذَا حُلْمٌ فَتُضَيَّعَهُ.

يَعْنِي: أَنَّ هَذَا مَنَامٌ وَرُؤْيَاهُ حَقٌّ فَلَا تُضَيِّعْهُ ـ.

فَأَتَى الرَّجُلُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدَ فَأَخْبَرَهُ بِمَا رَأَى، فَبَعَثَ خَالِدٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَى الدِّرْعِ، فَنَظَرَ إِلَى خِبَاءٍ فِي أَقْصَى الْعَسْكَرِ، فَإِذَا عِنْدَهُ فَرَسٌ يَسْتَنُّ فِي طِوَلِهِ، فَنَظَرَ فِي الْخِبَاءِ فَإِذَا لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ، فَدَخَلُوا فَرَفَعُوا الرَّحْلَ فَإِذَا تَحْتَهُ بُرْمَةٌ، ثُمَّ رَفَعُوا البُرْمَةَ فَإِذَا الدِّرْعُ تَحْتَهَا، فَأَتَوْا بِهِ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

فَلَمَّا قَدِمُوا المَدِينَةَ حَدَّثَ الرَّجُلُ الرَّائِي أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِرُؤْيَاهُ فَأَجَازَ وَصِيَّتَهُ ـ أَيْ: وَصِيَّةَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ بَعْدَ مَوْتِهِ.

وَلَا يُعْلَمُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ جُوِّزَتْ وَصِيَّتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ غَيْرَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. اهـ. كَمَا في الدُّرِّ المَنْثُورِ وَغَيْرِهِ.

وَفي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَهْلَ البَرْزَخِ قَدْ يَتَقَصَّدُ بَعْضُهُمُ الاجْتِمَاعَ بِأَهْلِ الدُّنْيَا عَنْ طَرِيقِ الرُّؤْيَا، كَمَا أَنَّهُ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى مُشَاهَدَةِ الشُّهَدَاءِ مَا يَجْرِي مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، كَمَا يُشَاهِدُ أَيْضًا أُمُورَ الآخِرَةِ، وَلَكِنْ كُلُّ شَهِيدٍ لَهُ مِنَ الشُّهُودِ عَلَى حَسَبِ مَقَامِ شَهَادَتِهِ، وَإنَّ مَقَامَ النُّبُوَّةِ هُوَ أَرْفَعُ وَأَعْظَمُ، وَأَسْمَى وَأَعْلَى مِنْ مَقَامِ الشَّهَادَةِ، فَلِلأَنْبِيَاءِ مِنَ المُشَاهَدَاتِ وَالاطِّلَاعَاتِ عَلَى العَوَالِم ـ في جَمِيعِ العَوَالِمِ ـ مَا لَا يَكُونُ لِغَيْرِهِمْ صَلَوَاتُ اللهِ تعالى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 17/ جمادى الآخرة /1443هـ، الموافق: 20/ كانون الثاني / 2022م