798ـ خطبة الجمعة: «بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا»

798ـ خطبة الجمعة: «بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا»

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: المُسْلِمُ الحَقُّ المُسْتَنِيرُ بِهَدْيِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَالقَائِمُ عَلَى شُؤُونِ نَفْسِهِ، وَالحَرِيصُ عَلَيْهَا وَعَلَى سَلَامَتِهَا دُنْيَا وَأُخْرَى بِصِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ، يَكُونُ جَوَادًا كَرِيمًا، يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ في الخَيْرِ عَلَى أَبْنَاءِ مُجْتَمَعِهِ بَعْدَ أَقَارِبِهِ، وَهُوَ إِذْ يُنْفِقُ يَبْذُلُ بِسَخَاءٍ، لِأَنَّهُ وَاثِقٌ أَنَّ عَطَايَاهُ لَنْ تَضِيعَ، لِأَنَّهَا مَحْفُوظَةٌ لَدَى العَلِيمِ الخَبِيرِ ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾.

وَإِنَّهُ لَيُؤْمِنُ أَيْضًا وَهُوَ يَجُودُ بِمَالِهِ، أَنَّ مَا يُنْفِقُهُ سَيَعُودُ عَلَيْهِ بِالفَائِدَةِ الجَمَّةِ وَالخَيْرِ العَمِيمِ، وَسَيُخْلِفُهُ اللهُ تعالى عَلَيْهِ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، قَالَ تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾. ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾.

المُؤْمِنُ الحَقُّ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ بِالإِنْفَاقِ، لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ أَنَّ المَلَكَ يَدْعُو لَهُ في كُلِّ صَبَاحٍ، روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا».

وروى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا بْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ».

«أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ»:

يَا عِبَادَ اللهِ: انْتِهَازُ فُرْصَةِ المَالِ شَأْنُ العُقَلَاءِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ» رواه البيهقي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

وروى الإمام مسلم عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، قَالَ: «يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي، مَالِي، قَالَ: وَهَلْ لَكَ، يَا بْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟».

حُبُّ الإِنْسَانِ للمَالِ شَدِيدٌ، قَالَ تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾. وَقَالَ: ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾. وَقَلْبُ المُؤْمِنِ عِنْدَ مَالِهِ، لِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى العَاقِلِ أَنْ يُحَوِّلَ مَالَهُ إلى دَارِ البَقَاءِ مَا اسْتَطَاعَ إلى ذَلِكَ سَبِيلًا، روى الترمذي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَقِيَ مِنْهَا»؟

قَالَتْ: مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلَّا كَتِفُهَا.

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا».

يَا عِبَادَ اللهِ: يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ لَا نَجْعَلَ للشَّيْطَانِ عَلَيْنَا سَبِيلًا عِنْدَ النَّفَقَةِ، لِأَنَّهُ يُخَوِّفُنَا الفَقْرَ، قَالَ تعالى: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾. الشَّيْطَانُ عَدُوُّنَا الذي لَا يُرِيدُ لَنَا الخَيْرَ عَلَى الإِطْلَاقِ ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾.

أَنْفِقُوا وَأَخْفُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَأَبْشِرُوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ» رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. هَذَا العَبْدُ في ظِلِّ عَرْشِ الرَّحْمَنِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَرِيصًا كُلَّ الحِرْصِ عَلَى تَأْصِيلِ فَضِيلَةِ الكَرَمِ في نُفُوسِ المُسْلِمِينَ، وَجَعَلَهَا مِنَ الفَضَائِلِ التي يَتَسَابَقُ العِبَادُ إلى التَّحَلِّي بِهَا، وَالتَّنَافُسِ فِيهَا، يَشْهَدُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ» رواه الشيخان عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

وروى الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟».

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ.

قَالَ: «فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ، وَمَالَ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ».

وَفِي الخِتَامِ: يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الجَنَّةِ قَرِيبٌ مِنَ النَّاسِ بَعِيدٌ مِنَ النَّارِ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا يُرْضِيكَ عَنَّا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 18/ جمادى الآخرة /1443هـ، الموافق: 21/ كانون الثاني / 2022م