800ـ خطبة الجمعة: الظلم طبع في بعض النفوس

800ـ خطبة الجمعة: الظلم طبع في بعض النفوس

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: هَا هُوَ شَهْرُ رَجَبِ مُضَرَ قَدْ أَطَلَّ عَلَيْنَا، وَهُوَ أَوَّلُ شَهْرٍ مِنَ الأَشْهُرِ الحُرُمِ التي حَرَّمَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا فِيهَا الظُّلْمَ لِأَنْفُسِنَا ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾. فَإِنْ كَانَ الظُّلْمُ للنَّفْسِ مُحَرَّمًا بِشَكْلٍ عَامٍّ، فَتَحْرِيمُهُ في الأَشْهُرِ الحُرُمِ أَشَدُّ.

شَهْرُ رَجَبٍ مِفْتَاحُ أَشْهُرِ الخَيْرِ وَالبَرَكَةِ، فَفِيهِ الزَّرْعُ، وَفي شَعْبَانَ السِّقَايَةُ، وَفي رَمَضَانَ حَصَادُ الزَّرْعِ، فَجَدِيرٌ بِمَنْ سَوَّدَ صَحِيفَةَ أَعْمَالِهِ بِالذُّنُوبِ أَنْ يُبَيِّضَهَا بِالتَّوْبَةِ وَالإِنَابَةِ في هَذَا الشَّهْرِ، وَجَدِيرٌ بِمَنْ ضَيَّعَ عُمُرَهُ بِالبَطَالَةِ أَنْ يَغْتَنِمَ مَا بَقِيَ مِنَ العُمُرِ، وَخَاصَّةً في هَذَا الشَّهْرِ.

طُوبَى لِمَنْ زَكَّى فِيهِ نَفْسَهُ، وَطُوبَى لِمَنْ تَقَرَّبَ إلى اللهِ تعالى فِيهِ، وَطُوبَى لِمَنْ تَابَ وَاصْطَلَحَ مَعَ اللهِ تعالى فِيهِ، وَطُوبَى لِمَنْ أَقْبَلَ عَلَى اللهِ تعالى فِيهِ، وَطُوبَى لِمَنْ كَفَّ عَنِ الظُّلْمِ فِيهِ.

الظُّلْمُ طَبْعٌ في بَعْضِ النُّفُوسِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: الظُّلْمُ طَبْعٌ في بَعْضِ نُفُوسِ النَّاسِ، فَتَرَى الوَاحِدَ مِنْهُمْ لَا يَنَامُ إلَّا عَلَى ظُلْمٍ، وَلَا يَسْتَيْقِظُ إلَّا عَلَى ظُلْمٍ، بَدْءًا مِنْ نَفْسِهِ وَنِهَايَةً للآخَرِينَ، مَعَ أَنَّ الظُّلْمَ مُحَرَّمٌ في شَرْعِ اللهِ تعالى، بَلْ وَحَرَّمَهُ اللهُ تعالى عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلَى عِبَادِهِ، وَتَوَعَّدَ الظَّالِمِينَ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ عَوَاقِبَ وَخِيمَةٍ عَلَى الأَفْرَادِ وَالمُجْتَمَعَاتِ، قَالَ تعالى في الحَدِيثِ القُدْسِيِّ: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

وَقَالَ تعالى في كِتَابِهِ العَزِيزِ: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾.

وَقَالَ في حَقِّ الظَّلَمَةِ: ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾.

وَقَالَ: ﴿وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾.

وَقَالَ تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ﴾.

مَاذَا تَقُولُ لِرَبِّكَ غَدًا؟

يَا عِبَادَ اللهِ: قَدِّمُوا النُّصْحَ لِكُلِّ ظَالِمٍ قَبْلَ نِهَايَةِ أَجَلِهِ، وَقُولُوا لَهُ: مَا أَنْتَ قَائِلٌ لِرَبِّكَ غَدًا يَوْمَ القِيَامَةِ، عِنْدَمَا يَقُولُ لَكَ عَلَى رُؤُوسِ الأَشْهَادِ: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾؟

مَا أَنْتَ قَائِلٌ لِرَبِّكَ غَدًا يَوْمَ القِيَامَةِ، عِنْدَمَا تَشْهَدُ عَلَيْكَ أَعْضَاؤُكَ ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾؟

وَعِنْدَمَا تَشْهَدُ عَلَيْكَ الأَرْضُ ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾؟

مَا أَنْتَ قَائِلٌ لِرَبِّكَ عِنْدَمَا يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ إلى أَرْضِ المَحْشَرِ ﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى﴾؟

مَا أَنْتَ قَائِلٌ لِرَبِّكَ غَدًا يَوْمَ القِيَامَةِ ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾؟

مَا أَنْتَ قَائِلٌ لِرَبِّكَ غَدًا يَوْمَ القِيَامَةِ، يَوْمَ ﴿يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ * كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى﴾؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: قُولُوا لِكُلِّ ظَالِمٍ: هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ دِينَنَا حَرَّمَ عَلَيْنَا ظُلْمَ البَهَائِمِ العَجْمَاوَاتِ؟

رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ خَلْفَهُ، فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا لَا أُخْبِرُ بِهِ أَحَدًا، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ فِي حَاجَتِهِ هَدَفٌ، أَوْ حَائِشُ نَخْلٍ، فَدَخَلَ يَوْمًا حَائِطًا مِنْ حِيطَانِ الْأَنْصَارِ، فَإِذَا جَمَلٌ قَدِ أتَاهُ فَجَرْجَرَ، وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ ـ قَالَ بَهْزٌ، وَعَفَّانُ: فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ ـ فَمَسَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَرَاتَهُ وَذِفْرَاهُ، فَسَكَنَ، فَقَالَ: «مَنْ صَاحِبُ الْجَمَلِ؟».

فَجَاءَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: هُوَ لِي يَا رَسُولَ اللهِ.

فَقَالَ: «أَمَا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَهَا اللهُ، إِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ».

وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا، وَلَا هِيَ أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ، حَتَّى مَاتَتْ هَزْلًا».

وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، فَرَأَيْنَا حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا، فَجَاءَتِ الْحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا».

يَا أَيُّهَا الظَّالِمُ، اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ، وَلَو طَالَ الزَّمَنُ، رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى اليَمَنِ، فَقَالَ: «اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ».

تَرَقَّبْ عُقُوبَةً صَبَاحًا أَو مَسَاءً، بَيَاتًا أَو ضُحًى.

دَعْوَةُ المَظْلُومِ تُصِيبُكَ في نَفْسِكَ وَمَالِكَ، وَتَقْلِبُ صِحَّتَكَ سَقَمًا، وَسَعَادَتَكَ شَقَاءً، وَتَجْعَلُكَ بَعْدَ العِزِّ ذَلِيلًا حَقِيرًا فَقِيرًا ﴿وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.

أَبْشِرْ أَيُّهَا الظَّالِمُ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا﴾.

أَبْشِرْ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: هَلُمُّوا جَمِيعًا للاصْطِلَاحِ مَعَ اللهِ تعالى في هَذَا الشَّهْرِ العَظِيمِ المُبَارَكِ، الذي حَرَّمَ اللهُ تعالى فِيهِ الظُّلْمَ لِأَنْفُسِنَا، لِأَنَّهُ في الحَقِيقَةِ مَنْ ظَلَمَ الآخَرِينَ فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، ارْحَمُوا أَنْفُسَكُمْ ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾.

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 2/ رجب /1443هـ، الموافق: 4/ شباط / 2022م