17ـ انكشاف الضمائر النفسية له صلى الله عليه وسلم

17ـ انكشاف الضمائر النفسية له صلى الله عليه وسلم

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنَ المُعْجِزَاتِ التي أَيَّدَ اللهُ تعالى بِهَا سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُعْجِزَةُ انْكِشَافِ الضَّمَائِرِ النَّفْسِيَّةِ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

رَوَى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَن مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: جَلَسَ عُمَيْرُ بن وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ مَعَ صَفْوَانَ بن أُمَيَّةَ بَعْدَ مُصَابِ أَهْلِ بَدْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ فِي الْحِجْرِ بِيَسِيرٍ، وَكَانَ مِمَّنْ يُؤْذِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ وَيَلْقَوْنَ مِنْهُمْ عَنَتًا، إِذْ هُمْ بِمَكَّةَ، وَكَانَ ابْنُهُ وَهْبُ بن عُمَيْرٍ فِي أُسَارَى أَصْحَابِ بَدْرٍ.

قَالَ: فَذَكَرُوا أَصْحَابَ الْقَلِيبِ بِمَصَائِبِهِمْ.

فَقَالَ صَفْوَانُ: واللهِ إِنْ فِي الْعَيْشِ بَعْدَهُمْ.

وَقَالَ عُمَيْرُ بن وَهْبٍ: صَدَقْتَ واللهِ، لَوْلَا دَيْنٌ عَلَيَّ لَيْسَ عِنْدِي قَضَاؤُهُ، وَعِيَالٌ أَخْشَى عَلَيْهِمُ الضَّيْعَةَ بَعْدِي، لَرَكِبْتُ إِلَى مُحَمَّدٍ حَتَّى أَقْتُلَهُ، فَإِنَّ لِي فِيهِمْ عِلَّةً، ابْنِي عِنْدَهُمْ أَسِيرٌ فِي أَيْدِيهِم.

 فَاغْتَنَمَهَا صَفْوَانُ، فَقَالَ: عَلَيَّ دَيْنُكَ أَنَا أَقْضِيهِ عَنْكَ، وَعِيَالُكَ مَعَ عِيَالِي أُسْوَتُهُمْ مَا بَقُوا لَا يَسَعُهُمْ شَيْءٌ نَعْجَزُ عَنْهُمْ.

قَالَ عُمَيْرٌ: اكْتُمْ عَلَيَّ شَأْنِي وَشَأْنَكَ.

قَالَ: أَفْعَلُ.

قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ عُمَيْرُ بِسَيْفِهِ، فَشُحِذَ وَسُمَّ، ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى الْـمَدِينَةِ.

فَبَيْنَا عُمَرُ بن الْخَطَّابِ بِالْـمَدِينَةِ فِي نَفَرٍ مِنَ الْـمُسْلِمِينَ يَتَذَاكَرُونَ يَوْمَ بَدْرٍ وَمَا أَكْرَمَهُمُ اللهُ بِهِ، وَمَا أَرَاهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ، إِذْ نَظَرَ إِلَى عُمَيْرِ بن وَهْبٍ قَدْ أَنَاخَ بِبَابِ الْـمَسْجِدِ مُتَوَشِّحَ السَّيْفِ، فَقَالَ: هَذَا الْكَلْبُ عَدُوُّ اللهِ عُمَيْرُ بن وَهْبٍ، مَا جَاءَ إِلا لِشَرٍّ، هَذَا الَّذِي حَرَّشَ بَيْنَنَا، وَحَزَرَنَا لِلْقَوْمِ يَوْمَ بَدْرٍ (يعني: قَدَّرَ عَدَدَنَا).

ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا عَدُوُّ اللهِ عُمَيْرُ بن وَهْبٍ، قَدْ جَاءَ مُتَوَشِّحًا السَّيْفَ.

قَالَ: «فَأَدْخِلْهُ».

فَأَقْبَلَ عُمَرُ حَتَّى أَخَذَ بِحِمَالَةِ سَيْفِهِ فِي عُنُقِهِ، فَلَبَّبَهُ بِهَا، وَقَالَ عُمَرُ لِرِجَالٍ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الأَنْصَارِ: ادْخُلُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَاجْلِسُوا عِنْدَهُ، وَاحْذَرُوا هَذَا الْكَلْبَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ.

ثُمَّ دَخَلَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَعُمَرُ آخِذٌ بِحِمَالَةِ سَيْفِهِ، فَقَالَ: «أَرْسِلْهُ يَا عُمَرُ، ادْنُ يَا عُمَيْرُ».

فَدَنَا، فَقَالَ: أَنْعِمُوا صَبَاحًا، وَكَانَتْ تَحِيَّةَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ بَيْنَهُمْ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ أَكْرَمَنَا اللهُ بِتَحِيَّةٍ خَيْرٍ مِنْ تَحِيَّتِكَ يَا عُمَيْرُ، السَّلامُ تَحِيَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ».

فَقَالَ: أَمَا واللهِ يَا مُحَمَّدُ، إِنْ كُنْتَ لَحَدِيثَ الْعَهْدِ بِهَا.

قَالَ: «فَمَا جَاءَ بِكَ؟».

قَالَ: جِئْتُ لِهَذَا الأَسِيرِ الَّذِي فِي أَيْدِيكُمْ، فَأَحْسِنُوا إِلَيْهِ.

قَالَ: «فَمَا بَالُ السَّيْفِ فِي عُنُقِكَ؟».

قَالَ: قَبَّحَهَا اللهُ مِنْ سُيُوفٍ، فَهَلْ أَغْنَتْ شَيْئًا؟

قَالَ: «اصْدُقْنِي مَا الذي جِئْتَ لَهُ؟».

قَالَ: مَا جِئْتُ إِلا لِهَذَا.

قَالَ: «بَلْ قَعَدْتَ أَنْتَ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ فِي الْحِجْرِ، فَتَذَاكَرْتُمَا أَصْحَابَ الْقَلِيبِ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقُلْتَ: لَوْلا دَيْنٌ عَلَيَّ، وَعِيَالِي لَخَرَجْتُ حَتَّى أَقْتُلَ مُحَمَّدَاً، فَتَحَمَّلَ صَفْوَانُ لَكَ بِدَيْنِكَ وَعِيَالِكَ، عَلَى أَنْ تَقْتُلَنِي، واللهُ حَائِلٌ بَيْنَكَ وَبَيْنَ ذَلِكَ».

قَالَ عُمَيْرٌ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، قَدْ كُنَّا يَا رَسُولَ اللهِ نُكَذِّبُكَ بِمَا كُنْتَ تَأْتِينَا بِهِ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَمَا يَنْزِلُ عَلَيْكَ مِنَ الْوَحْيِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَمْ يَحْضُرْهُ إِلا أَنَا وَصَفْوَانُ، فَوَاللهِ إِنِّي لأَعْلَمُ مَا أَنْبَأَكَ بِهِ إِلا اللهُ، فَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانِي لِلإِسْلامِ، وَسَاقَنِي هَذَا الْـمَسَاقَ، ثُمَّ شَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَقِّهُوا أَخَاكُمْ فِي دِينِهِ، وَأَقْرِئُوهُ الْقُرْآنَ، وَأَطْلِقُوا لَهُ أَسِيرَهُمْ».

قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ جَاهِدًا عَلَى إِطْفَاءِ نُورِ اللهِ، شَدِيدَ الأَذَى عَلَى مَنْ كَانَ عَلَى دِينِ اللهِ، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَأْذَنَ لِي، فَأُقْدِمَ مَكَّةَ، فَأَدْعُوَهُمْ إِلَى اللهِ وَإِلَى الإِسْلَامِ، لَعَلَّ اللهَ يَهْدِيهِمْ، وَإِلَّا آذَيْتُهُمْ، كَمَا كُنْتُ أُؤْذِي أَصْحَابَكَ فِي دِينِهِمْ.

فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَلَحِقَ بِمَكَّةَ، وَكَانَ صَفْوَانُ حِينَ خَرَجَ عُمَيْرُ بن وَهْبٍ، قَالَ لِقُرَيْشٍ: أَبْشِرُوا بِوَاقِعَةٍ تَأْتِيكُمُ الآنَ تُنْسِيكُمْ وَقْعَةَ بَدْرٍ.

وَكَانَ صَفْوَانُ يَسْأَلُ عَنْهُ الرُّكْبَانَ حَتَّى قَدِمَ رَاكِبٌ، فَأَخْبَرَهُ عَنْ إِسْلامِهِ، فَحَلَفَ أَنْ لا يُكَلِّمَهُ أَبَدًا وَلا يَنْفَعَهُ بنفْعٍ أَبَدًا.

فَلَمَّا قَدِمَ عُمَيْرٌ مَكَّةَ، أَقَامَ بِهَا يَدْعُو إِلَى الإِسْلَامِ، وَيُؤْذِي مَنْ يُخَالِفُهُ أَذَىً شَدِيدًا، فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ نَاسٌ كَثِيرٌ.

يُسْتَفَادُ مِنَ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ:

أَوَّلًا: رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَلَا أَحَدَ يَطَّلِعُ عَلَى غَيْبِهِ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى، قَالَ تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَـضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾.

فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ لِعِبَادِهِ أَنَّهُ هُوَ الذي يَعْلَمُ الغَيْبَ المُطْلَقَ عِلْمًا ذَاتِيًّا لَا نِهَايَةَ لَهُ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ . . ﴾.

وَقَالَ تعالى: ﴿لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾. الآيَةَ.

وَقَالَ تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾. الآيَةَ.

وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أَنَّهُ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ، فَيُطْلِعُهُ عَلَى مَا شَاءَ مِنَ الغَيْبِ حَسْبَ الحِكْمَةِ الإِلَهِيَّةِ.

فَقَدْ أَطْلَعَ سُبْحَانَهُ سَيِّدَنَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى بَعْضِ المُغَيَّبَاتِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ آيَةً عَلَى صِدْقِ نُبُوَّتِهِ وَحُجَّةً عَلَى قَوْمِهِ، قَالَ تعالى: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾.

فَهُوَ سُبْحَانَهُ يُطْلِعُ رُسُلَهُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَا شَاءَ مِنَ المُغَيَّبَاتِ، بِمُقْتَضَى حِكْمَتِهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ بَيِّنَةً عَلَى صِدْقِ نُبُوَّتِهِمْ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ آلَاتٍ، وَلَا بِتَدَخُّلِ أَسْبَابٍ عَادِيَّةٍ، أَو دَلَالَةِ عَلَامَاتٍ عَرَفِيَّةٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ إِنْبَاءِ الغَيْبِ الإِلَهِيِّ.

وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ عِلْمَ التَّنْجِيمِ، وَعِلْمَ الفَلَكِ، وَعِلْمَ الإِرْصَادَاتِ الجَوِيَّةِ، وَنَحْوَهَا مِنَ العُلُومِ التي تُسْتَنْتَجُ مِنْهَا بَعْضُ المَعْلُومَاتِ الخَفِيَّةِ، فَإِنَّهَا مَنُوطَةٌ بِأُصُولٍ عِلْمِيَّةٍ، وَمَبْنِيَّةٌ عَلَى قَوَاعِدَ وَضَوَابِطَ عَرَفِيَّةٍ عَادِيَّةٍ، تُعْطِي تِلْكَ النَّتَائِجَ الخَفِيَّةَ، فَلَا يُقَالُ: إِنَّهَا مِنْ بَابِ العِلْمِ بِالمُغَيَّبَاتِ أَصْلًا، إِذْ أَنَّ عِلْمَ الغَيْبِ شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مُجَرَّدَاً عَنِ المَوَادِّ وَالوَسَائِطِ الكَوْنِيَّةِ، وَالأَسْبَابِ العَادِيَّةِ، وَالعَلَامَاتِ العَرَفِيَّةِ، كَمَا نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ المُحَقِّقُونَ.

إِذْ لَا يُقَالُ للطَّبِيبِ الذي يَتَعَرَّفُ مِنْ مِقْيَاسِ النَّبْضِ عَلَى قُوَّةِ القَلْبِ وَضَعْفِهِ، وَالذي يَتَعَرَّفُ بِجَسِّ المَرِيضِ وَفَحْصِهِ الطِّبِّيِّ عَلَى مَرَضِهِ الخَفِيِّ، لَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ العِلْمِ الغَيْبِيِّ.

كَمَا أَنَّ العَالِمَ الفَلَكِيَّ الذي يَتَعَرَّفُ بِالإِرْصَادَاتِ وَالمَقَايِيسِ الجَوِّيَّةِ، إِلى التَّغَيُّرَاتِ الحَارَّةِ وَالبَارِدَةِ وَنَحْوِهَا، لَا يُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ الغَيْبِ.

ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَـضَى مِنْ رَسُولٍ﴾. الآيَةَ. هَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ تعالى: ﴿قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾. الآيَةَ.

لِأَنَّ المَنْفِيَّ في هَذِهِ الآيَةِ هُوَ عِلْمُ الغَيْبِ المُطْلَقِ المُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَالمَعْنَى: لَا أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي أَعْلَمُ الغَيْبَ المُطْلَقَ المُحِيطَ بِكُلِّ شَيْءٍ، كُلِّيًّا وَجُزْئِيًّا، فَإِنَّ ذَلِكَ للهِ تعالى وَحْدَهُ.

وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ تعالى عَنْ نُوحٍ على نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾. الآيَةَ.

أَو المُرَادُ: إِنِّي لَا أَعْلَمُ الغَيْبَ إلَّا أَنْ يُعْلِمَنِي اللهُ تعالى، وَيُطْلِعَنِي عَلَى مَا شَاءَ مِنَ الغَيْبِ.

كَمَا وَأَنَّ قَوْلَهُ تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾. الآيَةَ. لَا يَنْفِي عَنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ تعالى اطِّلَاعَهُمْ عَلَى بَعْضِ المُغَيَّبَاتِ، وَذَلِكَ: لِأَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِـ الرَّسُولِ في الآيَةِ الكَرِيمَةِ: الرَّسُولُ البَشَرِيُّ ـ كَمَا عَلَيْهِ الجُمْهُورُ ـ فَاطِّلَاعُ الأَوْلِيَاءِ عَلَى بَعْضِ المُغَيَّبَاتِ إِنَّمَا حَصَلَ لَهُمْ بِاتِّبَاعِهِمْ لِرَسُولِهِمْ، وَبِوَاسِطَتِهِ  يُكْرَمُونَ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ ذَلِكَ دَاخِلَاً في الكَرَامَاتِ، وَكُلُّ كَرَامَةٍ لِوَلِيًّ فَهِيَ مُعْجِزَةٌ لِنَبِيِّهِ، قَدْ نَالَهَا بِاتِّبَاعِهِ لَهُ، صَلَوَاتُ اللهِ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَى الأَنْبِيَاءِ أَجْمَعِينَ.

وَإِنْ أُرِيدَ بِـ الرَّسُولِ: الرَّسُولُ المَلَكِيُّ ـ كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ ـ فَهُوَ يَنْزِلُ بِالوَحْيِ النَّبَوِيِّ عَلَى الأَنْبِيَاءِ، وَيَنْزِلُ بِالإِلْهَامِ الصَّادِقِ عَلَى قُلُوبِ الأَوْلِيَاءِ، وَيُلْقِي إِلَيْهِمْ وَيُحَدِّثُهُمْ، وَكَيْفَ يَجُوزُ إِنْكَارُ اطِّلَاعِ الأَوْلِيَاءِ عَلَى بَعْضِ المُغَيَّبَاتِ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ في الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ؟! وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ في الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَاللَّفْظُ للبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ، فَإِنَّهُ عُمَرُ»

وَرَوَى البُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ رِجَالٌ، يُكَلَّمُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ، فَإِنْ يَكُنْ مِنْ أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَدٌ: فَعُمَرُ».

قَالَ في فَتْحِ البَارِي: وَالمُحدِّثُ: الْمُحَدَّث هُوَ مَنْ أُلْقِيَ فِي رُوعِهِ شَيْءٌ مِنْ قِبَل المَلَأِ الْأَعْلَى، فَيَكُونُ كَالَّذِي حَدَّثَهُ غَيْرُهُ بِهِ؛ وَقِيلَ: مُكَلَّمٌ، أَيْ: تُكَلِّمُهُ المَلَائِكَةُ بِغَيْرِ نُبُوَّةٍ، وَهَذَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ يُحَدَّثُ؟

قَالَ: «تَتَكَلَّمُ المَلَائِكَةُ عَلَى لِسَانِهِ».

وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: فَإِنْ يَكُنْ مِنْ أُمَّتِي أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ» لَمْ يَرِدْ مَوْرِدَ التَّرَدُّدِ، بَلْ هَذَا مِنْ بَابِ التَّأْكِيدِ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ: إِنْ يَكُنْ لِي صَدِيقٌ فَإِنَّهُ فُلَانٌ، يُرِيدُ اخْتِصَاصَهُ بِكَمَالِ الصَّدَاقَةِ، لَا نَفْيَ الأَصْدِقَاءِ عَنْهُ، وَلِذَا وَرَدَ في التِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ جَعَلَ الحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ» اهـ.

فَهَذِهِ الأَحَادِيثُ صَرِيحَةٌ في إِثْبَاتِ الإِلْهَامِ، وَالتَّحَدُّثِ عَنِ المُغَيَّبَاتِ، وَفِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقُوا فِرَاسَةَ المُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللهِ»، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾.

وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ ثَوْبَانَ مَرْفُوعًا: «احْذَرُوا فِرَاسَةَ المُؤْمِنْ؛ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللهِ، وَبِتَوْفِيقِ اللهِ».

وَرَوَى البَزَّارُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ للهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِبَادَاً يَعْرِفُونَ النَّاسَ بِالتَّوَسُّمِ».

وَمِنْ ذَلِكَ قِصَّةُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ الرَّجُلُ وَقَدْ نَظَرَ إلى امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ عَلَيْنَا وَفِي عَيْنَيْهِ أَثَرُ الزِّنَا.

فَقَالَ الرَّجُلُ: أَوَحْيٌ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ؟

فَقَالَ لَهُ: لَا، وَلَكِنْ فِرَاسَةُ مُؤْمِنٍ صَادِقَةٌ.

ثَانِيًا: نَتَعَلَّمُ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ كَيْفَ كَانَ حُبُّ الفَارُوقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَيْفَ كَانَتْ غَيْرَتُهُ عَلَيْهِ، عِنْدَمَا أَخَذَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِتَلَابِيبِ عُمَيْرِ بْنِ وَهْبٍ، وَأَدْخَلَهُ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَفَرَائِصُ عُمَيْرٍ تَرْتَعِدُ خَوْفًا وَفَرَقًا مِنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَعِنْدَمَا أَمَرَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «أَرْسِلْهُ يَا عُمَرُ». اسْتَجَابَ لِأَمْرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَخَرَجَ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَمَّلْ أَنْ يَرَى هَذَا الكَافِرَ بَيْنَ يَدَيْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ لِبَعْضِ الأَنْصَارِ: عِنْدَكُمْ الكَلْبُ عَدُوُّ اللهِ الذي حَرَّشَ بَيْنَنَا، وَحَزَرَنَا لِلْقَوْمِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَحْتَرِسُوا مِنْهُ خَشْيَةً عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

ثَالِثًا: نَتَعَلَّمُ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ أَنَّ أَوْثَقَ عُرَى الإِيمَانِ الحُبُّ في اللهِ، وَالبُغْضُ في اللهِ، رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَيُّ عُرَى الْإِسْلَامِ أَوْثَقُ؟».

قَالُوا: الصَّلَاةُ.

قَالَ: «حَسَنَةٌ، وَمَا هِيَ بِهَا؟».

قَالُوا: الزَّكَاةُ.

قَالَ: «حَسَنَةٌ، وَمَا هِيَ بِهَا؟».

قَالُوا: صِيَامُ رَمَضَانَ.

قَالَ: «حَسَنٌ، وَمَا هُوَ بِهِ؟».

قَالُوا: الْحَجُّ.

قَالَ: «حَسَنٌ، وَمَا هُوَ بِهِ؟».

قَالُوا: الْجِهَادُ.

قَالَ: «حَسَنٌ، وَمَا هُوَ بِهِ؟».

قَالَ: «إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللهِ».

هَذَا سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، الشَّدِيدُ في اللهِ، الغَيُورُ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، عِنْدَمَا رَأَى عُمَيْرَ بْنَ وَهْبٍ مُقْبِلًا، قَالَ: لَخَنْزِيرٌ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُ حِينَ اطَّلَعَ، وَلَهْوَ الْيَوْمَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ بَعْضِ بَنِيَّ. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ.

الإِيمَانُ الحَقُّ لَا يَقْبَلُ أَنْصَافَ الحُلُولِ، الإِيمَانُ الحَقُّ يَجِبُ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى القَلْبِ، وَأَنْ تُضْرِبَ أَوْتَادُهُ في أَعْمَاقِ النَّفْسِ، وَلَا يَرْضَى إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَاكِمًا عَلَى كُلِّ إِحْسَاسٍ، وَعَلَى كُلِّ شُعُورٍ، وَعَلَى كُلِّ نَبْضَةٍ مِنْ نَبَضَاتِ القَلْبِ.

الإِيمَانُ يُغَيِّرُ الإِنْسَانَ مِنْ دَاخِلِهِ، يُغَيِّرُ مَشَاعِرَهُ، فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تُحِبَّ كَمَا تَشَاءُ، أَو أَنْ تُبْغِضَ كَمَا تَشَاءُ، بَلْ كَمَا أَرَادَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَمَا أَرَادَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ﴾.

فَهَذَا الحُبُّ المُرْتَبِطُ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالمَحَبَّةُ المُتَّصِلَةُ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَمَحَبَّةُ المُؤْمِنِينَ كُلُّهَا أُمُورٌ إِسْلَامِيَّةٌ إِيمَانِيَّةٌ مِنْ أَخَصِّ خَصَائِصِ هَذَا الدِّينِ، وَمِنْ أَعْظَمِ أَرْكَانِ هَذَا الإِيمَانِ.

مِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ عَرَفْنَا شَخْصِيَّةَ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، الذي كَانَ يُحِبُّ في اللهِ، وَيُبْغِضُ في اللهِ، وَإِذَا تَابَ العَاصِي وَالكَافِرُ بِدُونِ تَوَقُّفٍ صَارَ مَحْبُوبًا عِنْدَ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

رَابِعًا: يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ، أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَيْرًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، عِنْدَمَا أَسْلَمَ قَالَ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانِي لِلإِسْلامِ، وَسَاقَنِي هَذَا الْـمَسَاقَ.

المَاضِي الأَسْوَدُ، وَالكَبَائِرُ التي ارْتُكِبَتْ، وَالكَيْدُ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، وَالحِقْدُ الدَّفِينُ تُجَاهَ رِسَالَةِ الإِسْلَامِ، وَالكُفْرُ وَالعِنَادُ، وَالعَزْمُ عَلَى قَتْلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَالعَزْمُ عَلَى ذَلِكَ سَنَوَاتٍ طَوِيلَةً، كُلُّهَا تُمْحَى بِلَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الزَّمَانِ، يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

نَعَمْ، المُشْرِكُونَ نَجَسٌ، وَلَكِنْ يَتَطَهَّرُونَ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَكَأَنَّ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ، وَتُطْوَى صَحِيفَةُ المَاضِي بِمَا فِيهَا، بَلْ يُبَدِّلُ اللهُ السَّيِّئَاتِ حَسَنَاتٍ، قَالَ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾.

نَعَمْ، بِلَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ يَمْحُو الإِسْلَامُ كُلَّ الخَطَايَا السَّالِفَةِ، بَلْ وَيَنْسَى المُسلِمُونَ كُلَّ الجَرَائِرِ وَالعَدَاوَاتِ السَّابِقَةِ، وَيَفْتَحُونَ قُلُوبَهُمْ لِمَنْ نَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَيَأْخُذُونَهُ بِالأَحْضَانِ بِنَاءً عَلَى مَنْ أَرْسَلَهُ اللهُ تعالى رَحْمَةً للعَالَمِينَ، بِنَاءً عَلَى أَمْرِ مَنْ أَرْسَلَهُ تعالى لِتَزْكِيَةِ نُفُوسِ العِبَادِ.

عِنْدَمَا أَسْلَمَ عُمَيْرٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، تَوَجَّهَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ قَائِلًا: «فَقِّهُوا أَخَاكُمْ فِي دِينِهِ، وَأَقْرِئُوهُ الْقُرْآنَ، وَأَطْلِقُوا لَهُ أَسِيرَهُمْ». فَعَلَ الصَّحَابَةُ مَا أَمَرَهُمْ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَصَارَ حَوَارِيًّا مِنْ حَوَارِيِّ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

نَتَعَلَّمُ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ، أَنَّ العِلْمَ ضَرُورِيٌّ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ المُجْتَمَعِ، وَخَاصَّةً بِمَنْ أَكْرَمَهُمُ اللهُ تعالى بِالهِدَايَةِ وَالتَّوْبَةِ مِنْ قَرِيبٍ، لِأَنَّهُ مَا لَا يَتِمُّ الوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، فَالعِلْمُ لِتَصْحِيحِ العَمَلِ، وَلَا يَصِحُّ عَمَلٌ إِلَّا بِعِلْمٍ.

مِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ أَسْرَعَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِتَوْجِيهِ الصَّحَابَةِ لِتَعْلِيمِ عُمَيْرٍ، لِأَنَّ العِلْمَ نُورٌ، وَيَجْعَلُ صَاحِبَهُ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ، وَمَنْ كَانَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ لَا يَسْتَوْحِشُ مِنَ الحَقِّ لِقِلَّةِ السَّالِكِينَ، وَلَا يَغْتَرُّ بِالبَاطِلِ وَلَو كَثُرَ الهَالِكُونَ.

كَمْ نَحْنُ مُقَصِّرُونَ في تَعْلِيمِ العِلْمِ للآخَرِينَ؟ مَعَ أَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ إلى المَدِينَةِ لِكَيْ يَدْعُوَ النَّاسَ إلى الإِسْلَامِ وَيُعُلِّمَهُمْ دِينَهُمْ قَبْلَ هِجْرَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى المَدِينَةِ؛ يَقُولُ البَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَكَانَا يُقْرِئَانِ النَّاسَ، فَقَدِمَ بِلَالٌ وَسَعْدٌ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، ثُمَّ قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ المَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى جَعَلَ الإِمَاءُ يَقُلْنَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. اهـ.

وَنَتَعَلَّمُ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ أَنَّ قِرَاءَةَ القُرآنِ الكَرِيمِ للفِقْهِ وَالعَمَلِ، مَعَ كَوْنِهَا عِبَادَةً، وَلَكِنَّ الهَدَفَ مِنْ قِرَاءَةِ القُرْآنِ تَفَهُّمُ المَعَانِي، وَتَطْبِيقُ مَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ أَحْكَامٍ، قَالَ تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى حِرْصِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَعْلِيمِ العِلْمِ للنَّاسِ، رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ: قَالَ أَبُو رِفَاعَةَ: انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَخْطُبُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، رَجُلٌ غَرِيبٌ جَاءَ يَسْأَلُ عَنْ دِينِهِ، لَا يَدْرِي مَا دِينُهُ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكَ خُطْبَتَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَيَّ، فَأُتِيَ بِكُرْسِيٍّ خِلْتُ قَوَائِمَهُ حَدِيدًا، فَقَعَدَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ يُعَلِّمُنِي مِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ ثُمَّ أَتَى خُطْبَتَهُ فَأَتَمَّهَا.

خَامِسًا: الرِّفْقُ وَاللِّينُ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالآخَرِينَ وَلَو كَانُوا أَعْدَاءً، لَقَدْ حَاوَرَهُ مُحَاوَرَةً هَادِئَةً وَلَطِيفَةً، سَأَلَهُ أَوَّلًا: «فَمَا جَاءَ بِكَ؟» «فَمَا بَالُ السَّيْفِ فِي عُنُقِكَ؟» «اصْدُقْنِي مَا الذي جِئْتَ لَهُ؟» «بَلْ قَعَدْتَ أَنْتَ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ فِي الْحِجْرِ، فَتَذَاكَرْتُمَا أَصْحَابَ الْقَلِيبِ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقُلْتَ: لَوْلا دَيْنٌ عَلَيَّ، وَعِيَالِي لَخَرَجْتُ حَتَّى أَقْتُلَ مُحَمَّدَاً، فَتَحَمَّلَ صَفْوَانُ لَكَ بِدَيْنِكَ وَعِيَالِكَ، عَلَى أَنْ تَقْتُلَنِي، واللهُ حَائِلٌ بَيْنَكَ وَبَيْنَ ذَلِكَ».

كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَدْرِي حَقِيقَةَ أَمْرِهِ، بِإِطْلَاعِ اللهِ تعالى لَهُ عَنْ مَقْصِدِهِ، وَرَغْمَ ذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِهِ، وَلَا بِضَرْبِ عُنُقِهِ، وَلَا بِأَسْرِهِ.

رِفْقٌ وَلِينٌ لِإِنْقَاذِ المَرْضَى في دِينِهِمْ، وَهَذَا مَا رَبَّى عَلَيْهِ أَصْحَابَهُ الكِرَامَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَخَاصَّةً أَهْلَ بَيْتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ اليَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ.

قَالَتْ عَائِشَةُ: فَفَهِمْتُهَا.

فَقُلْتُ: وَعَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ.

قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ».

فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟

قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ».

وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ».

شَاهَدَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَبُولُ في المَسْجِدِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي المَسْجِدِ، فَقَامُوا إِلَيْهِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تُزْرِمُوهُ» ثُمَّ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصُبَّ عَلَيْهِ.

وَفي رِوَايَةٍ للإِمَامِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ.

فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: مَهْ مَهْ.

قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ».

فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: «إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ». أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

قَالَ: فَأَمَرَ رَجُلًا مِنَ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ.

لِذَلِكَ حَذَّرَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشِّدَّةِ وَالقَسْوَةِ، لِأَنَّهَا تُنَفِّرُ مِنْ دِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّم: «مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ، يُحْرَمِ الْخَيْرَ» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ جَرِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ».

 

اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا بِرُؤْيَةِ هَذَا الحَبِيبِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 8/ ربيع الآخر /1444هـ، الموافق: 4/ تشرين الثاني / 2022م