840ـ خطبة الجمعة: ربوا أبناءكم على لقمة الحلال

840ـ خطبة الجمعة: ربوا أبناءكم على لقمة الحلال

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: صَلَاحُنَا صَلَاحُ أَبْنَائِنَا، وَصَلَاحُ أَبْنَائِنَا صَلَاحُ المُجْتَمَعِ، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ العَبْدُ صَالِحًا إِلَّا إِذَا أَكَلَ الحَلَالَ، وَلَا يَكُونُ أَبْنَاؤُنَا صَالِحِينَ إِلَّا إِذَا غَذَّيْنَاهُمْ بِالحَلَالِ.

لُقْمَةُ الحَلَالِ صَارَتْ في هَذَا الزَّمَنِ نَادِرَةً، وَمَنْ أَكْرَمَهُ اللهُ تعالى بِهَا كَانَتْ هَنِيئَةً مَرِيئَةً مُيَسَّرَةً، وَكَانَتْ دَعْوَةُ آكِلِهَا مُسْتَجَابَةً بِإِذْنِ اللهِ تعالى، وَمَنْ كَانَتْ دَعْوَتُهُ مُسْتَجَابَةً فَهُوَ مِنْ أَسْعَدِ النَّاسِ عَلَى الإِطْلَاقِ.

هَلُمُّوا يَا عِبَادَ اللهِ إلى أَنْ نَجْعَلَ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أُسْوَتَنَا في ذَلِكَ، وَخَاصَّةً في تَغْذِيَةِ أَبْنَائِنَا، رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَخَذَ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالفَارِسِيَّةِ: «كِخْ كِخْ، أَمَا تَعْرِفُ أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ».

وَفي رِوَايَةٍ عِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى عَنْ أَبِي الْحَوْرَاءِ قَالَ: قُلْتُ لِلحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ مَا تَذْكُرُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

قَالَ: أَذْكُرُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَخَذْتُ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَعَلْتُهَا فِي فِيَّ.

قَالَ: فَنَزَعَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِلُعَابِهَا، فَجَعَلَهَا فِي التَّمْرِ.

فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا كَانَ عَلَيْكَ مِنْ هَذِهِ التَّمْرَةِ لِهَذَا الصَّبِيِّ؟

قَالَ: «إِنَّا آلَ مُحَمَّدٍ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ».

قَالَ: وَكَانَ يَقُولُ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ، إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ، فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ».

رَبُّوا أَبْنَاءَكُمْ عَلَى لُقْمَةِ الحَلَالِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَعْتَنِ بِأَبْنَائنَا، وَلْنُرَبِّهِمْ تَرْبِيَةً صَالِحَةً، وَخَاصَّةً عَلَى لُقْمَةِ الحَلَالِ، فَصَاحِبُ لُقْمَةِ الحَلَالِ دَعْوَتُهُ مُسْتَجَابَةٌ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الطَّبَرَانِيُّ في الأَوْسَطِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: تُلِيَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾.

فَقَامَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ.

فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا سَعْدُ، أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ الْعَبْدَ لَيَقْذِفُ اللُّقْمَةَ الْحَرَامَ فِي جَوْفِهِ مَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُ عَمَلُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَأَيُّمَا عَبْدٍ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنَ السُّحْتِ وَالرِّبَا فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ».

هَذَا سَيِّدُنَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ حَرِيصًا كُلَّ الحِرْصِ عَلَى لُقْمَةِ الحَلَالِ، وَعَلَى تَغْذِيَةِ أَبْنَائِهِ بِهَا، رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ غُلَامٌ يُخْرِجُ لَهُ الخَرَاجَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ الغُلاَمُ: أَتَدْرِي مَا هَذَا؟

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا هُوَ؟

قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَمَا أُحْسِنُ الكِهَانَةَ، إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ؛ فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ، فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: كَمْ مِنْ لُقْمَةٍ حَرَامٍ حَجَبَتْ صَاحِبَهَا عَنِ اللهِ تعالى، كَمْ مِنْ لُقْمَةٍ حَرَامٍ حَجَبَتْ صَاحِبَهَا عَنِ اسْتَجَابَةِ دُعَائِهِ، رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾.

وَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾.

ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ تَسَاهَلَ النَّاسُ اليَوْمَ في أَكْلِ الحَرَامِ، وَتَغْذِيَةِ أَبْنَائِهِمْ مِنَ الحَرَامِ، مَعَ أَنَّ اللهَ تعالى خَاطَبَنَا بِقَوْلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾. وَبِقَوْلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ. وَبِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. وَالحَرَامُ خَبِيثٌ، وَمَنْ أَكَلَ الحَرَامَ الخَبِيثَ فَلَنْ يُوَفَّقَ إلى الطَّاعَاتِ، وَمَنْ أَكَلَ الحَلَالَ الطَّيِّبَ وُفِّقَ لِفِعْلِ الطَّاعَاتِ.

فَإِذَا كُنَّا نَشْكُو اليَوْمَ الفَسَادَ عَلَى جَمِيعِ المُسْتَوَيَاتِ، فَمَا هَذَا الفَسَادُ إِلَّا بِسَبَبِ أَكْلِ الحَرَامِ ـ وَاللهُ تعالى أَعْلَمُ ـ.

 

أَكْلُ الحَرَامِ شَرٌّ وَفِتْنَةٌ، وَقَسْوَةُ قَلْبٍ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا مَعَ حَيَاةِ الشَّقَاءِ، وَنَارٌ مُحْرِقَةٌ وَعَذَابٌ في الآخِرَةِ.

الرِّبَا انْتَشَرَ، الرِّشْوَةُ انْتَشَرَتْ، السَّرِقَةُ انْتَشَرَتْ، النَّهْبُ انْتَشَرَ، الاغْتِصَابُ انْتَشَرَ، الخِيَانَةُ انْتَشَرَتْ، وَصُوَرٌ كَثِيرَةٌ لِأَكْلِ الحَرَامِ انْتَشَرَتْ، ثُمَّ نَشْكُو الفَسَادَ، شَيْءٌ عَجِيبٌ!.

الأَمْرُ بِأَيْدِينَا يَا عِبَادَ اللهِ، رَاقِبُوا أَنْفُسَكُمْ، وَرَاقِبُوا رَعِيَّتَكُمْ، مِنْ أَيْنَ تَأْتِي الأَمْوَالُ؟ وَأَيْنَ تَذْهَبُ؟ فَالكُلُّ مَسْؤُولٌ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

اللَّهُمَّ أَغْنِنَا بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَبِطَاعَتِكَ عَنْ مَعْصِيَتِكَ، وَبِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 2/ربيع الآخر /1444هـ، الموافق: 28/ تشرين الأول / 2022م