196ـ مسايرة الواقع جريمة

كلمة شهر جمادى الآخرة 1444

196ـ مسايرة الواقع جريمة

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ عَلَامَاتَ تَوْفِيقِ اللهِ تعالى لِعَبْدِهِ، أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ، وَأَنْ يَرْزُقَهُ اليَقَظَةَ وَالتَّنَبُّهَ في حَيَاتِهِ الدُّنْيَا، فَلَا تَرَاهُ إِلَّا حَذِرًا مُحَاسِبًا نَفْسَهُ، خَائِفًا مِنَ الزَّيْغِ بَعْدَ الهُدَى، وَخَائِفًا مِنْ أَنْ تَزِلَّ قَدَمُهُ بَعْدَ ثُبُوتِهَا.

هَذَا العَبْدُ دَأْبُهُ في لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ الفِرَارُ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ، وَأَنْ يُكْثِرَ مِنَ الدُّعَاءِ للهِ تعالى: وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةً فِي قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، وَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ؛ يَسْأَلُ اللهَ تعالى الثَّبَاتَ وَأَنْ لَا يُبَدِّلَ تَبْدِيلًا، لِيَفُوزَ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾.

مُسَايَرَةُ الوَاقِعِ جَرِيمَةٌ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مُشْكِلَةُ الأُمَّةِ اليَوْمَ أَنَّ الكَثِيرَ مِنْهَا يُسَايِرُ الوَاقِعَ، وَيُرَاعِي مَرْضَاةَ النَّاسِ وَلَو بِسَخَطِ اللهِ تعالى، وَلَا يُبَالِي، يَقَعُ في المَعَاصِي بَعْدَ الطَّاعَاتِ، وَلَا يُبَالِي، وَيَقَعُ في الظُّلْمَةِ بَعْدَ النُّورِ، وَلَا يُبَالِي؛ وَالمُوَفَّقُ السَّعِيدُ مَنْ ثَبَّتَهُ اللهُ تعالى بِالقَوْلِ الثَّابِتِ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفي الآخِرَةِ.

وَإِذَا كَانَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ خَاطَبَ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾. فَسِوَاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ البَشَرِ أَحْوَجُ إلى التَّثْبِيتِ.

لِنَثْبُتْ عَلَى الحَقِّ وَلَو ابْتَعَدَ النَّاسُ عَنْهُ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ، وَخَاصَّةً أَتْبَاعَ الشَّهَوَاتِ، يُرِيدُونَ مِنَّا أَنْ نَمِيلَ مَيْلًا عَظِيمًا عَنِ المَنْهَجِ الذي جَاءَنَا بِهِ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ تعالى: ﴿وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا﴾.

هَؤُلَاءِ يُحَاوِلُونَ صَرْفَنَا عَنِ المُهِمَّةِ الكُبْرَى، أَلَا وَهِيَ التَّحَقُّقُ بِالعُبُودِيَّةِ للهِ تعالى وَحْدَهُ، هَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ مِنَّا أَنْ نَنْصَرِفَ عَنِ الخَيْرِ وَالإِحْسَانِ إلى الإِسَاءَةِ، لِأَنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ لَنَا الخَيْرَ، لِذَا وَجَبَ عَلَيْنَا الثَّبَاتُ عَلَى الحَقِّ وَلَوِ ابْتَعَدَ النَّاسُ جَمِيعًا عَنْهُ ـ لَا قَدَّرَ اللهُ تعالى ـ.

وَوَجَبَ عَلَيْنَا سَمَاعُ قَوْلِ الحَبِيبِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُخَاطِبُ النَّاسَ: «لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاؤُوا فَلَا تَظْلِمُوا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُحَدِّدَ هُوِيَّتَنَا وَأَنْ نُوَطِّنَ أَنْفُسَنَا، فَلَا نَتَّبِعُ كُلَّ نَاعِقٍ، فَإِنَّ دُعَاةَ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ كَثِيرٌ، عَلَيْنَا الالْتِزَامُ بِصِفَةِ أُولِي الأَلْبَابِ الذينَ قَالُوا: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾.

مُعْظَمُ أَعْرَافِ النَّاسِ اليَوْمَ مُخَالِفَةٌ للكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَلْنَحْذَرْ مِنْ أَنْ نَقُولَ: هَكَذَا العَادَاتُ وَالتَّقَالِيدُ، أَو أَنْ يَقُولَ أَحَدُنَا: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾.

تَذَكَّرُوا قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ التَمَسَ رِضَاءَ اللهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنِ التَمَسَ رِضَاءَ النَّاسِ بِسَخَطِ اللهِ وَكَلَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ» رَوَاهُ التَّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَا تَغْتَرُّوا بِكَثْرَةِ الهَالِكِينَ، فَسَيِّدُنَا نُوحٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَعَا قَوْمَهُ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، لَيْلًا وَنَهَارًا، سِرًّا وَعَلَانِيَةً، وَلَمْ يُؤْمِنْ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ.

وَصَدَقَ مَنْ قَالَ: عَلَيْكَ بِطَرِيقِ الَحقِّ وَلا تَسْتَوحِشْ مِن قِلَّةِ السَّائِرِينَ، وَإِيَاكَ وَطَرِيقَ البَاطِلِ، وَلَا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الهَالِكِينَ.

فَالمُؤْمِنُ الصُّلْبُ الذي هُوَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ، مُعْتَزٌّ بِدِينِهِ، مُسْتَقِلٌّ بِرَأْيِهِ، لِأَنَّهُ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِ، مُتَمَسِّكٌ بِكِتَابِ رَبِّهِ، وَمُتَّبِعٌ هَدْيَ نَبِيِّهِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

المُؤْمِنُ يَدْعُو النَّاسَ إلى اللهِ تعالى، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَدْعُوَهُ لِغَيْرِ اللهِ تعالى.

المُؤْمِنُ الحَقُّ مُسْتَنِيرُ الدَّرْبِ، يُعَاشِرُ النَّاسَ وَهُوَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ، إِذَا رَآهُمْ عَلَى الحَقِّ أَعَانَهُمْ وَشَدَّ عَلَى أَيْدِيهِمْ، وَإِنْ رَآهُمْ عَلَى خَطَأٍ نَصَحَهُمْ وَأَرْشَدَهُمْ وَدَعَا لَهُمْ، وَجَانَبَ خَطَأَهُمْ.

هُوَ وَاثِقٌ بِمَا أَيْقَنَ بِهِ، وَيَسْتَخِفُّ بِمَا يَلْقَاهُ مِنْ سُخْرِيَةٍ وَاسْتِنْكَارٍ وَيَلْتَمِسُ المَنْهَجَ الذي يُرْضِي اللهَ تعالى، وَلَو كَانَ وَحِيدًا فَرِيدًا.

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 1/جمادى الآخرة /1444هـ، الموافق: 25/ كانون الأول / 2022م