197ـ أيها المغرور عمرك قصير

كلمة شهر رجب الفرد 1444

197ـ أيها المغرور عمرك قصير

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الحَيَاةُ الدُّنْيَا دَارُ لَهْوٍ وَلَعِبٍ، وَدَارُ اخْتِبَارٍ وَابْتِلَاءٍ، وَدَارُ مَمَرٍّ لَا مَقَرٍّ، وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ، قَالَ تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾.

لِمَاذَا غَفَلْنَا عَنِ الدَّارِ الآخِرَةِ وَهِيَ المَآلُ وَالمَقَرُّ؟

وَمَا هَذِهِ التِّجَارَةُ الخَاسِرَةُ، وَالشَّهْوَةُ الخَفِيَّةُ، وَلَا مَحِيصَ عَنِ الحِسَابِ وَلَا مَفَرَّ؟

وَمَا هَذِهِ الغَفْلَةُ، وَقَدْ فَازَ المُتَيَقِّظُونَ، فَشَمَّرُوا عَنْ سَوَاعِدِهِمْ لِطَاعَةِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالنَّاسُ في غَفْلَةٍ، وَهُمْ عَنِ اللهِ تعالى مُعْرِضُونَ؟

إِذَا كَانَ أَهْلُ الكُفْرِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لَا قِيَامَةَ بَعْدَ المَوْتِ، وَأَنَّ اللهَ تعالى لَا يَرَاهُمْ، وَلَنْ يُحَاسِبَهُمْ، وَإِنْ عَادُوا إلى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ فَسَوْفَ يُعْطِيهِمْ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهُمْ في الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ قَائِلُهُمْ: ﴿وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا﴾.

فَهَلْ نَعْتَقِدُ اعْتِقَادَ هَؤُلَاءِ ـ لَا قَدَّرَ اللهُ تعالى ـ؟

هَلْ نَعْتَقِدُ أَنَّ اللهَ تعالى يَنْسَى ذَنْبًا أَو ظُلَامَةً أُخِذَتْ مِنْ مَظْلومٍ، وَهُوَ تَبَارَكَ وتعالى القَائِلُ: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾. وَالقَائِلُ: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾. وَالقَائِلُ: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: اللهُ تَبَارَكَ وتعالى هُوَ المُحْصِي، وَهُوَ العَلِيمُ، وَهُوَ الخَبِيرُ، وَهُوَ الذي لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ في كِتَابٍ مُسْتَطَرٌ.

أَيُّهَا المَغْرُورُ، عُمُرُكَ قَصِيرٌ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَقُولُ للعَبْدِ المَغْرُورِ بِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالغَافِلِ عَنْ خَالِقِهِ، وَالمُجْتَرِئِ عَلَى مَعْصِيَتِهِ: يَا أَيُّهَا العَبْدُ المَغْرُورُ، عُمُرُكَ قَصِيرٌ، فَانْتَبِهْ يَا مِسْكِينُ؛ فَالدُّنْيَا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ، وَدَارُ فَنَاءٍ، لَا تَصْلُحُ للمُقَامِ.

أَيُّهَا العَبْدُ المَغْرُورُ، هَا أَنْتَ في شَهْرِ رَجَبٍ الفَرْدِ، فَهَلَّا اصْطَلَحْتَ مَعَ اللهِ تعالى؟ هَلَّا رَجَعْتَ إلى اللهِ تعالى؟ هَلَّا تَرَكْتَ الظُّلْمَ بِكُلِّ أَشْكَالِهِ، وَأَنْتَ تَقْرَأُ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾. يَعْنِي في جَمِيعِ أَيَّامِ السَّنَةِ، وَخَاصَّةً في الأَشْهُرِ الحُرُمِ؟

أَيُّهَا العَبْدُ المَغْرُورُ، هَلَّا قَرَأْتَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾؟

سَوْفَ يُكشَفُ عَنْكَ الغِطَاءُ عِنْدَ سَكَرَاتِ المَوْتِ وَمَا بَعْدَهَا حَتَّى تَقِفَ في أَرْضِ المَحْشَرِ، وَمَعَكَ سَائِقٌ وَشَهِيدٌ، فَكُلُّ غَيْبٍ حَدَّثَكَ عَنْهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَوْفَ تَرَاهُ بِبَصَرِكَ مِنْ لَحْظَةِ سَكَرَاتِ المَوْتِ، وَعِنْدَهَا تَقُولُ كَمَا أَخْبَرَ اللهُ تعالى عَنْ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ المَغْرُورِينَ بِقَوْلِهِ: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾.

وَإِذَا حُمِلْتَ عَلَى نَعْشِكَ لِيُؤْخَذَ بِكَ إلى قَبْرِكَ الذي تَرَاهُ حَسَبَ عَمَلِكَ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا وُضِعَتِ الجِنَازَةُ، فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي، قَدِّمُونِي، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا، أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا؟ يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهَا الإِنْسَانُ لَصَعِقَ».

وَإِذَا وُضِعْتَ في قَبْرِكَ، وَرَأَيْتَهُ لَا قَدَّرَ اللهُ تعالى حُفْرَةً مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ، فَسَوْفَ يُكْشَفُ لَكَ عَنْ مُقَامِكَ في نَارِ جَهَنَّمَ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «العَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَتُوُلِّيَ، وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ، فَأَقْعَدَاهُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟

فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ.

فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الجَنَّةِ».

قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا، وَأَمَّا الكَافِرُ ـ أَوِ المُنَافِقُ ـ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ.

فَيُقَالُ: لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَلُمُّوا لِنَغْتَنِمَ أَنْفَاسَ أَعْمَارِنَا القَصِيرَةِ بِالطَّاعَةِ وَتَرْكِ المَعْصِيَةِ، هَلُمُّوا إلى أَنْ نَتَخَلَّقَ بِأَحْسَنِ الأَخْلَاقِ في كُلِّ كَبِيرَةٍ وَصَغِيرَةٍ، هَلُمُّوا لِأَنْ نَجْعَلَ هَمَّنَا الآخِرَةَ، فَالحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعُهَا مَتَاعُ الغُرُورِ، نَعِيمُهَا لَا يَدُومُ، وَإِنْ دَامَ فَلَنْ نَدُومَ لَهَا، غَايَةُ أَمْرِهَا وَبَالٌ، وَسُرُورُهَا شُرُورٌ، وَنِهَايَةُ نَعِيمِهَا زَوَالٌ.

لِنَسْمَعْ قَوْلَ اللهِ تعالى وَهُوَ يُحَدِّثُنَا عَنِ الأَشْهُرِ الحُرُمِ: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾.

فَالبَرْزَخُ إِمَّا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ، وَإِمَّا حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِ اليَقَظَةِ، وَلَا تَجْعَلْنَا مِنَ الغَافِلِينَ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 1/رجب /1444هـ، الموافق: 23/ كانون الثاني / 2023م