76ـ بنفسي فتية تركتهم عالة لا شيء لهم

76ـ بنفسي فتية تركتهم عالة لا شيء لهم

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: رَوَى ابْنُ عَبْدِ الحَكَمِ في كِتَابِهِ النَّفِيسِ المُسَمَّى: سِيرَةَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ، قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ عُمَرَ الوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ وَقَالَ: إِنَّكَ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ قَدْ فَطَمْتَ أَفْوَاهَ أَوْلَادِكَ عَنْ هَذَا المَالِ، فَحَبَّذَا لَو أَوْصَيْتَ بِهِمْ إِلَيَّ أَو إلى مَنْ تُفَضِّلُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ.

فَلَمَّا انْتَهَى مِنْ كَلَامِهِ قَالَ عُمَرُ: أَجْلِسُونِي.

فَأَجْلَسُوهُ فَقَالَ: قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَكَ يَا مَسْلَمَةُ، أَمَّا قَوْلُكَ: إِنِّي قَدْ فَطَمْتُ أَفْوَاهَ أَوْلَادِي عَنْ هَذَا المَالِ، فَإِنَي وَاللهِ مَا مَنَعْتُهُمْ حَقًّا هُوَ لَهُمْ، وَلَمْ أَكُنْ لِأُعْطِيَهُمْ شَيْئًا لَيْسَ لَهُمْ.

وَأَمَّا قَوْلُكَ: لَو أَوْصَيْتَ بِهِمْ إِلَيَّ أَو إلى مَنْ تُفَضِّلُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ، فَإِنَّمَا وَصِيِّيَ فِيهِمُ اللهُ الذي نَزَّلَ الكِتَابَ بِالحَقِّ، وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ.

وَاعْلَمْ يَا مَسْلَمَةُ أَنَّ أَبْنَائِي أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إِمَّا رَجُلٌ صَالِحٌ مُتَّقٍ، فَسَيُغْنِيهِ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَيَجْعَلُ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ مَخْرَجًا.

وَإِمَّا رَجُلٌ طَالِحٌ مُكِبٌّ عَلَى المَعَاصِي، فَلَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ يُعِينُهُ بِالمَالِ عَلَى مَعْصِيَةِ اللهِ تعالى.

ثُمَّ قَالَ: ادْعُوا لِي بَنِيَّ، فَدَعَوْهُمْ، وَهُمْ بِضْعَةَ عَشَرَ وَلَدًا.

فَلَمَا رَآهُمْ تَرَقْرَقَتْ عَيْنَاهُ، وَقَالَ: بِنَفْسِي فِتْيَةً تَرَكْتُهُمْ عَالَةً لَا شَيْءَ لَهُمْ، وَبَكَى بُكَاءً صَامِتًا ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: أَيْ بَنِيَّ: إِنَي قَدْ تَرَكْتُ لَكُمْ خَيْرًا كَثِيرًا، فَإِنَّكُمْ لَا تَمُرُّونَ بِأَحَدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ أَو أَهْلِ ذِمَّتِهِمْ إِلَّا رَأَوْا أَنْ لَكُمْ عَلَيْهِمْ حَقًّا.

يَا بَنِيَّ، إِنَّ أَمَامَكُمْ خِيَارًا بَيْنَ أَمْرَيْنِ: فَإِمَّا أَنْ تَسْتَغْنُوا، وَيَدْخُلَ أَبُوكُمُ النَّارَ، وَإِمَّا أَنْ تَفْتَقِرُوا وَيَدْخُلَ الجَنَّةَ؛ وَلَا أَحْسَبُ إِلَّا أَنَّكُمْ تُؤْثِرُونَ إِنْقَاذَ أَبِيكُمْ مِنَ النَّارِ عَلَى الغِنَى.

ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِمْ في رِفْقٍ وَقَالَ: قُومُوا عَصَمَكُمُ اللهُ، قُومُوا رَزَقَكُمُ اللهُ.

فَالْتَفَتْ إِلَيْهِ مَسْلَمَةُ وَقَالَ: عِنْدِي مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ.

فَقَالَ: وَمَا هُوَ؟

قَالَ: لَدَيَّ ثَلَاثُمِئَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَإِنِّي أَهَبُهَا لَكَ فَفَرِّقْهَا فِيهِمْ، أَو تَصَدَّقْ بِهَا إِذَا شِئْتَ.

فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ يَا مَسْلَمَةُ؟

فَقَالَ: وَمَا هُوَ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ؟

فَقَالَ: تَرُدُّهَا إلى مَنْ أُخِذَتْ مِنْهُ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ لَكَ بِحَقٍّ.

فَتَرَقْرَقَتْ عَيْنَا مَسْلَمَةَ وَقَالَ: رَحِمَكَ اللهُ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ حَيًّا وَمَيْتًا، فَقَدْ أَلَنْتَ مِنَّا قُلُوبًا قَاسِيَةً، وَذَكَّرْتَهَا وَقَدْ كَانَتْ نَاسِيَةً، وَأَبْقَيْتَ لَنَا في الصَّالِحِينَ ذِكْرًا.

ثُمَّ تَتَبَّعَ النَّاسُ أَخْبَارَ أَبْنَاءِ عُمَرَ مِنْ بَعْدِهِ، فَرَأَوْا أَنَّهُ مَا احْتَاجَ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَا افْتَقَرَ.

وَصَدَقَ اللهُ العَظِيمُ إِذْ يَقُولُ: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾.

**   **    **

تاريخ الكلمة:

يوم الأربعاء: 14/ رمضان / 1444 هـ، الموافق: 5/ نيسان / 2023 م