863ـ خطبة الجمعة: العشر الأخير تاج الليالي

863ـ خطبة الجمعة: العشر الأخير تاج الليالي

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: هَذَا الشَّهْرُ العَظِيمُ المُبَارَكُ أَوْشَكَ عَلَى الرَّحِيلِ بِمَا أَوْدَعْنَا فِيهِ مِنْ أَعْمَالٍ، وَاللَّبِيبُ الكَيِّسُ مَنْ خَتَمَ هَذَا الشَّهْرَ بِتَوْبَةٍ صَادِقَةٍ وَذَلِكَ بِالبُعْدِ عَنِ المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ وَالآثَامِ، وَالمُفْلِسُ مَنْ أَغْرَقَ نَفْسَهُ في المَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ، وَلَقِيَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ـ لَا قَدَّرَ اللهُ ـ عَلَى العِصْيَانِ.

السَّعِيدُ مَنْ لَقِيَ رَبَّهُ تَبَارَكَ وتعالى عَلَى تَوْبَةٍ صَادِقَةٍ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ أَجْمَلِ وَأَكْمَلِ الطَّاعَاتِ، وَمِنْ أَعْظَمِ الحَسَنَاتِ، وَيَكْفِي شَرَفًا للتَّائِبِينَ قَوْلُ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾.

هَلُمُّوا يَا عِبَادَ اللهِ لِأَنْ نُكْثِرَ مِنَ الاسْتِغْفَارِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ وَنَحْنُ نَسْتَحْضِرُ قَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَاسْتَكْثِرُوا فِيهِ مِنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: خَصْلَتَيْنِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ، وَخَصْلَتَيْنِ لَا غِنًى بِكُمْ عَنْهُمَا، فَأَمَّا الْخَصْلَتَانِ اللَّتَانِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ، فَشَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَتَسْتَغْفِرُونَهُ، وَأَمَّا اللَّتَانِ لَا غِنًى بِكُمْ عَنْهُمَا، فَتَسْأَلُونَ اللهَ الْجَنَّةَ، وَتَعُوذُونَ بِهِ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ أَشْبَعَ فِيهِ صَائِمًا، سَقَاهُ اللهُ مِنْ حَوْضِي شَرْبَةً لَا يَظْمَأُ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ» رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ عَنْ سَلْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

هَلُمُّوا لِأَنْ نُتَوِّجَ هَذَا الصِّيَامَ وَالقِيَامَ وَتِلَاوَةَ القُرْآنِ بِالاسْتِغْفَارِ، لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.

العَشْرُ الأَخِيرُ تَاجُ اللَّيَالِي:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ تَفَضَّلَ عَلَيْنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ بِنَفَحَاتِ شَهْرِ رَمَضَانَ، الذي جَعَلَهُ مَوْسِمًا للطَّاعَاتِ، اغْتَنَمَ الصَّالِحُونَ نَفَائِسَهَا، وَيَتَدَارَكُ الأَوَّابُونَ أَوَاخِرَهَا، لَيَالٍ مُبَارَكَةٌ أَوْشَكَتْ عَلَى الرَّحِيلِ، العَشْرُ الأَخِيرُ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ العَظِيمِ المُبَارَكِ هِيَ تَاجُ اللَّيَالِي، حَيْثُ كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ، كَمَا قَالَتِ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا. رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ.

وَتَقُولُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ. رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ.

العَشْرُ الأَخِيرُ هِيَ أُمُّ اللَّيَالِي، كَثِيرَةُ البَرَكَاتِ، القَلِيلُ مِنَ العَمَلِ فِيهَا كَثِيرٌ، وَالكَثِيرُ مِنْهَا يُضَاعَفُ، وَخَاصَّةً لَيْلَةَ القَدْرِ التي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، لِمَنْ قَامَهَا إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا.

فَعَلَيَّ وَعَلَيْكُمْ بِالشَّفِيعَيْنِ، القُرْآنِ وَالصِّيَامِ، لِنَجْعَلْ أَلْسِنَتَنَا طَرِيَّةً رَطِبَةً بِتِلَاوَةِ القُرْآنِ، وَخَاصَّةً في الصَّلَاةِ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ وَالتَّهَجُّدِ، لِأَنَّ سَلَفَنَا الصَّالِحَ قَدْ جُعِلَتْ قُرَّةُ أَعْيُنِهِمْ في الصَّلَاةِ، كَسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّم الذي قَالَ: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ».

وَلَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّضُ أَصْحَابَهُ عَلَى القِيَامِ خَاصَّةً وَعَامَّةً، رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ بِلَالٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ قُرْبَةٌ إِلَى اللهِ، وَمَنْهَاةٌ عَنْ الإِثْمِ، وَتَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنِ الجَسَدِ».

وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».

وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».

وَرَوَى عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ بِسَلَامٍ».

وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ، لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ».

قَالَ سَالِمٌ: فَكَانَ عَبْدُ اللهِ، بَعْدَ ذَلِكَ، لَا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ هَلَّتْ عَلَيْنَا هَذِهِ اللَّيَالِي الشَّرِيفَةُ، التي هِيَ لُبُّ لُبَابِ الشَّهْرِ، فِيهَا لَيْلَةٌ شَرِيفَةٌ مُبَارَكَةٌ هِيَ زَهْرَةُ الشَّهْرِ، يَسْعَى الصَّالِحُونَ فِيهَا بِالجِدِّ وَالعَمَلِ وَالمُسَارَعَةِ في الخَيْرَاتِ، يُرِيدُونَ مُوَافَقَتَهَا بِقُلُوبٍ تَقِيَّةٍ نَقِيَّةٍ صَالِحَةٍ لَا إِثْمَ فِيهَا وَلَا غِلَّ وَلَا حِقْدَ وَلَا حَسَدَ، لِيَنَالُوا فَضْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ المشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾.

يَا خَيْبَةَ مَنْ ضَيَّعَهَا وَتَشَاغَلَ عَنْهَا بِعَرَضٍ مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا، مَعَ أَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَظَّمَ هَذِهِ العَشْرَ، وَأَحَاطَهَا بِرِعَايَتِهِ وَعِنَايَتِهِ، فَاعْتَكَفَ العَشْرَ الأَخِيرَ مِنْ رَمَضَانَ، وَفي العَامِ الذي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ لَيْلَةً. صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِاغْتِنَامِهَا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 23/ رمضان /1444هـ، الموافق: 14/ نيسان / 2023م