866ـ خطبة عيد الفطر 1444 هـ: وعد ووعيد

866ـ خطبة عيد الفطر 1444 هـ: وعد ووعيد

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: انْقَضَى وَطُوِيَتْ صَحَائِفُ شَهْرِ رَمَضَانَ العَظِيمِ المُبَارَكِ، وَانْقَسَمَ النَّاسُ فِيهِ إلى قِسْمَيْنِ:

القِسْمِ الأَوَّلِ: هُمُ الذينَ عَظَّمُوا هَذِهِ الشَّعِيرَةَ المَعْلُومَةَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، عَظَّمُوهَا حَقَّ التَّعْظِيمِ، لِأَنَّهُمْ سَمِعُوا قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهَ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾.

عَظَّمُوا هَذِهِ الشَّعِيرَةَ بِلِسَانِ الحَالِ وَالمَقَالِ عِنْدَمَا سَمِعُوا قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ يُنَادِيهِمْ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.

فَقَالُوا لِهَذَا النِّدَاءِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، فَصَامُوا وَقَامُوا امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ تعالى الذي شَرَحَ صُدُورَهُمْ للإِسْلَامِ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ﴾. امْتَثَلُوا أَمْرَ اللهِ تعالى لِأَنَّهُمْ سَمِعُوا مُنَادِيَ الإِيمَانِ يُنَادِي للإِيمَانِ فَآمَنُوا، كَمَا قَالَ تعالى عَنْهُمْ: ﴿رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ﴾.

آمَنُوا بِاللهِ تعالى أَوَّلًا، وَاسْتَجَابُوا لِأَمْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ثَانِيًا، وَقَالُوا للهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾. هَؤُلَاءِ صَامُوا حَقَّ الصِّيَامِ، وَقَامُوا حَقَّ القِيَامِ.

القِسْمِ الثَّانِي: أَمَّا القِسْمُ الثَّانِي ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى لَنَا وَلَهُمُ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ ـ فَهَؤُلَاءِ الذينَ كَانَتْ صُدُورُهُمْ ضَيِّقَةً حَرِجَةً عِنْدَمَا جَاءَهُمْ أَمْرُ اللهِ تعالى بِالصِّيَامِ، هَؤُلَاءِ أَضَلُّوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلَ اللهُ تعالى صُدُورَهُمْ ضَيِّقَةً حَرِجَةً، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُون﴾.

هَؤُلَاءِ قَالُوا بِلِسَانِ الحَالِ وَالمَقَالِ: ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾. هَؤُلَاء ِالذينَ اسْتَحَبُّوا العَمَى عَلَى الهُدَى، كَمَا قَالَ تعالى عَنْ أَمْثَالِهِمْ: ﴿فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾.

هَؤُلَاءِ نَظَرُوا إلى هَذِهِ الشَّعِيرَةِ نَظْرَةَ ازْدِرَاءٍ وَاسْتِخْفَافٍ فَأَفْطَرُوا شَهْرَ رَمَضَانَ جِهَارًا نَهَارًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا رُخْصَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَاسْتَخَفُّوا بِهَذِهِ الشَّعِيرَةِ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى.

وَعْدٌ وَوَعِيدٌ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ وَعَدَ اللهُ تعالى القِسْمَ الأَوَّلَ بِأَجْرٍ عَظِيمٍ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ تعالى، وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ تعالى في الحَدِيثِ القُدْسِيِّ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ حِينَ يُفْطِرُ، وَفَرْحَةٌ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ» رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْفِطْرِ وَقَفَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَبْوَابِ الطُّرُقِ، فَنَادَوْا: اغْدُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى رَبٍّ كَرِيمٍ يَمُنُّ بِالْخَيْرِ، ثُمَّ يُثِيبُ عَلَيْهِ الْجَزِيلَ، لَقَدْ أُمِرْتُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَقُمْتُمْ، وَأُمِرْتُمْ بِصِيَامِ النَّهَارِ فَصُمْتُمْ، وَأَطَعْتُمْ رَبَّكُمْ، فَاقْبِضُوا جَوَائِزَكُمْ، فَإِذَا صَلَّوْا، نَادَى مُنَادٍ: أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ قَدْ غَفَرَ لَكُمْ، فَارْجِعُوا رَاشِدِينَ إِلَى رِحَالِكُمْ، فَهُوَ يَوْمُ الْجَائِزَةِ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ الْيَوْمُ فِي السَّمَاءِ يَوْمَ الْجَائِزَةِ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَوْسٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ.

وَتَوَعَّدَ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى القِسْمَ الثَّانِيَ إِذَا مَاتُوا وَهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾.

وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بُعْدًا لِمَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ قُلْتُ: آمِينَ» رَوَاهُ الحَاكِمُ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

تَوَعَّدَهُ بِالحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ عِنْدَ سَكَرَاتِ المَوْتِ، إِذْ يَقُولُ: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾.

وَأَمَّا الحَسْرَةُ العُظْمَى فَسَتُكُونُ يَوْمَ القِيَامَةِ، قَالَ تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ﴾.

وَأَمَّا القِسْمُ الأَوَّلُ فَهُوَ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: يَا مَنْ أَكْرَمَكُمُ اللهُ تعالى بِتَعْظِيمِ شَعِيرَةِ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ، كُونُوا عَلَى حَذَرٍ مِنْ إِفْسَادِ الصَّوْمِ بِبَعْضِ الأَعْمَالِ المُخْزِيَةِ التي يَرْتَكِبُهَا بَعْضُ المُسْلِمِينَ.

مِنْ أَخْطَرِهَا اخْتِلَاطُ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَتَنَاسِي قَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾.

وَمِنْ أَشْنَعِهَا تَبَرُّجُ النِّسَاءِ، وَتَنَاسِي قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾.

وَتَنَاسِي قَوْلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا، قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُؤُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا للمُحَافَظَةِ عَلَى ثَمَرَةِ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

السبت: 1/ شوال /1444هـ، الموافق: 22/ نيسان / 2023م