137ـ كلمات في مناسبات: يوم عرفة يوم الغفران

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمٌ أَكْمَلَ اللهُ تعالى فِيهِ الدِّينَ، قَالَ تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾.

يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمُ الغُفْرَانِ، وَالعِتْقِ مِنَ النِّيرَانِ، وَخِزْيِ الشَّيْطَانِ، رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟».

وَفي رِوَايَةٍ للإِمَامِ مَالِكٍ في المُوَطَّأِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ كَرِيزٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا، هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلَا أَدْحَرُ وَلَا أَحْقَرُ وَلَا أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ؛ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ، وَتَجَاوُزِ اللهِ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ، إِلَّا مَا أُرِيَ يَوْمَ بَدْرٍ».

قِيلَ: وَمَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ المَلَائِكَةَ».

يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمُ الدُّعَاءِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمٌ يُسْتَجَابُ فِيهِ الدُّعَاءُ، رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».

الدُّعَاءُ سُنَّةُ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، وَدَأْبُ الصَّالِحِينَ، فَمَنْ تَرَكَهُ فَقَدْ سَلَكَ سَبِيلَ الأَشْقِيَاءِ وَالمُتَكَبِّرِينَ، قَالَ تعالى في حَقِّ الأَنْبِيَاءِ: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾.

وَقَالَ في حَقِّ الصَّالِحِينَ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾.

وَقَالَ في حَقِّ الأَشْقِيَاءِ وَالمُسْتَكْبِرِينَ: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾.

لَقَدْ أَمَرَ اللهُ تعالى عِبَادَهُ بِالدُّعَاءِ، وَحَثَّهُمْ عَلَيْهِ، قَالَ تعالى: ﴿وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾.

وَقَالَ: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾.

وَقَالَ: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ﴾.

وَقَدْ حَذَّرَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَرْكِ الدُّعَاءِ، فَقَالَ: «إِنَّهُ مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَرَحِم اللهُ مَنْ قَالَ:

لَا تَـسْأَلَنَّ بُـنَيَّ آدَمَ حَـاجَـةً   ***   وَسَـلِ الَّذِي أَبْوَابُهُ لَا تُحْجَبُ

اللهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ   ***   وَبُنَيُّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ

فَالدُّعَاءُ سَبَبٌ للنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، قَالَ تعالى في حَقِّ النَّاجِينَ مِنَ النَّارِ: ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ﴾.

وَلَمَّا كَانَتْ مَنْزِلَةُ الذين يَدْعُونَ اللهَ تعالى مَنْزِلَةً كَبِيرَةً، أَمَرَ اللهُ تعالى سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجَالِسَ وَيُلَازِمَ أَهْلَ الدُّعَاءِ، وَأَنْ لَا يَعْدُوَهُمْ إلى غَيْرِهِمْ بِالنَّظَرِ، قَالَ تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾.

وَقَدْ حَذَّرَ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الإِسَاءَةِ إلى أَهْلِ الدُّعَاءِ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا لَهُمْ، فَقَالَ تعالى: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾.

وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تعالى أَنَّهُ مَنْ لَزِمَ الدُّعَاءَ فَلَنْ يُدْرِكَهُ الشَّقَاءُ، قَالَ تعالى حِكَايَةً عَنْ سَيِّدِنَا زَكَرِيَّا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾.

وَقَالَ تعالى حِكَايَةً عَنْ خَلِيلِهِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا﴾.

وَرَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ الدَّاعِينَ وَالمُلِحِّينَ عَلَيْهِ في الدُّعَاءِ، رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «سَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ، فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ، وَأَفْضَلُ العِبَادَةِ انْتِظَارُ الفَرَجِ».

وَرَوَى البَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ لَيُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ».

وَقَدْ بَيَّنَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الدُّعَاءَ كُلَّهُ خَيْرٌ، رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو اللهَ بِدُعَاءٍ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِمَّا أَنْ يُعَجَّلَ فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا أَنْ يُدَّخَرَ لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يُكَفَّرَ عَنْهُ مِنْ ذُنُوبِهِ بِقَدْرِ مَا دَعَا، مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ أَوْ يَسْتَعْجِلْ».

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ يَسْتَعْجِلُ؟

قَالَ: «يَقُولُ: دَعَوْتُ رَبِّي فَمَا اسْتَجَابَ لِي».

يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمُ التَّوْبَةِ وَالاسْتِغْفَارِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمُ العِتْقِ مِنَ النَّارِ، وَالمُبَاهَاةِ بِأَهْلِهِ مِنَ اللهِ تعالى للمَلَائِكَةِ الكِرَامِ، رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ المُسَيِّبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ المَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟».

في يَوْمِ عَرَفَةَ يَغْفِرُ اللهُ تعالى لِكُلِّ مَنْ وَقَفَ، وَمَنْ لَمْ يَقِفْ فِيهِ مِمَّنْ قَبِلَ تَوْبَتَهُمْ وَاسْتِغْفَارَهُمْ، رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِفَتًى ـ كَانَ رَدِيفَهُ ـ: «ابْنَ أَخِي، إِنَّ هَذَا يَوْمٌ مَنْ مَلَكَ فِيهِ سَمْعَهُ، وَبَصَرَهُ، وَلِسَانَهُ، غُفِرَ لَهُ».

وَفي رَوَايَةٍ للبَيْهَقِيِّ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَفِظَ لِسَانَهُ وَسَمْعَهُ وَبَصَرَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ غُفِرَ لَهُ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى عَرَفَةَ».

فَيَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمُ التَّوْبَةِ وَالإِنَابَةِ وَالاسْتِغْفَارِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾.

وَالاسْتِغْفَارُ دَأْبُ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ وَالصَّالِحِينَ، قَالَ تعالى حِكَايَةً عَنْ أَبَوَيِ البَشَرِ: ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.

وَقَالَ تعالى عَنْ سَيِّدِنَا نُوحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.

وَقَالَ تعالى عَنْهُ أَيْضًا: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا﴾.

وَكَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَسْتَغْفِرُ بِهَذَا الاسْتِغْفَارَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ.

يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمُ الذِّكْرِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمُ الذِّكْرِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَتِلَاوَةِ القُرْآنِ الكَرِيمِ، رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».

وَالذَّاكِرُ للهِ تعالى هُوَ بِمَعِيَّةِ اللهِ تعالى، رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً».

ذِكْرُ اللهِ تعالى خَيْرُ الأَعْمَالِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ»؟

قَالُوا: بَلَى.

قَالَ: «ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى».

قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَا شَيْءٌ أَنْجَى مِنْ عَذَابِ اللهِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: في الخِتَامِ أَقُولُ: كَانَ للسَّلَفِ الصَّالِحِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَحْوَالٌ مِنَ الرَّجَاءِ في مَغْفِرَةِ اللهِ تعالى.

فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ الخَوَّاصُ يَقُولُ في المَوْقِفِ: وَاشَوْقَاهُ إلى مَنْ يَرَانِي وَلَا أَرَاهُ.

وَقَالَ بَعْدَمَا كَبِرَ وَهُوَ آخِذٌ بِلِحْيَتِهِ: قَدْ كَبِرْتُ فَأَعْتِقْنِي يَا مَوْلَايَ.

وَقَالَ ابْنُ المُبَارَكِ: جِئْتُ إلَى سُفْيَانَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَهُوَ جَاثٍ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَعَيْنَاهُ تَهْمِلَانِ فَبَكَيْتُ فَالْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ؟

فَقُلْتُ: مَنْ أَسْوَأُ هَذَا الْجَمْعِ حَالًا؟

قَالَ: الَّذِي يَظُنُّ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَغْفِرَ لَهُمْ.

وَرُوِيَ عَنِ الفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ أَنَّهُ وَقَفَ بِعَرَفَةَ وَالنَّاسُ يَدْعُونَ وَهُوَ يَبْكِي بُكَاءَ الثَّكْلَى المُحْتَرِقَةِ، فَلَمَّا كَادَتِ الشَّمْسُ أَنْ تَسْقُطَ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: وَاسَوْأَتَاهْ مِنْكَ وَإِنْ عَفَوْتَ.

نَسْأَلُ اللهَ جَلَّ وَعَلَا أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ المَشْمُولِينَ بِالمَغْفِرَةِ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 9/ ذو الحجة /1443هـ، الموافق: 8/ تموز / 2022م