15ـ معجزة البركة في الطعام

15ـ معجزة البركة في الطعام

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنَ المُعْجِزَاتِ التي أَكْرَمَ اللهُ تعالى بِهَا سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ البَرَكَةُ في الطَّعَامِ، حَيْثُ يَكْفِي القَلِيلُ مِنْهُ العَدَدَ الكَبِيرَ، وَقَدْ يَكْفِي مُدَّةً طَوِيلَةً مِنَ الزَّمَنِ؛ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ:

مَا رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ: آللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، إِنْ كُنْتُ لَأَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الأَرْضِ مِنَ الجُوعِ، وَإِنْ كُنْتُ لَأَشُدُّ الحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنَ الجُوعِ، وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمُ الَّذِي يَخْرُجُونَ مِنْهُ، فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ، مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِيُشْبِعَنِي، فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ مَرَّ بِي عُمَرُ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ، مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِيُشْبِعَنِي، فَمَرَّ فَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ مَرَّ بِي أَبُو القَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِي، وَعَرَفَ مَا فِي نَفْسِي وَمَا فِي وَجْهِي، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا هِرٍّ».

قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: «الحَقْ» وَمَضَى فَتَبِعْتُهُ، فَدَخَلَ، فَاسْتَأْذَنَ، فَأَذِنَ لِي، فَدَخَلَ، فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ، فَقَالَ: «مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ؟».

قَالُوا: أَهْدَاهُ لَكَ فُلَانٌ أَوْ فُلَانَةُ.

قَالَ: «أَبَا هِرٍّ».

قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: «الحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِي».

قَالَ: وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الإِسْلَامِ، لَا يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ وَلَا مَالٍ وَلَا عَلَى أَحَدٍ، إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا، فَسَاءَنِي ذَلِكَ، فَقُلْتُ: وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ، كُنْتُ أَحَقَّ أَنَا أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا، فَإِذَا جَاءَ أَمَرَنِي، فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ، وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِي مِنْ هَذَا اللَّبَنِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بُدٌّ، فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا، فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ، وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنَ البَيْتِ، قَالَ: «يَا أَبَا هِرٍّ».

قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: «خُذْ فَأَعْطِهِمْ».

قَالَ: فَأَخَذْتُ القَدَحَ، فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ القَدَحَ، فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ القَدَحَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ القَدَحَ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رَوِيَ القَوْمُ كُلُّهُمْ، فَأَخَذَ القَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ، فَنَظَرَ إِلَيَّ فَتَبَسَّمَ، فَقَالَ: «أَبَا هِرٍّ».

قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: «بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ».

قُلْتُ: صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: «اقْعُدْ فَاشْرَبْ».

فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ، فَقَالَ: «اشْرَبْ» فَشَرِبْتُ، فَمَا زَالَ يَقُولُ: «اشْرَبْ» حَتَّى قُلْتُ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا.

قَالَ: «فَأَرِنِي» فَأَعْطَيْتُهُ القَدَحَ، فَحَمِدَ اللهَ وَسَمَّى وَشَرِبَ الفَضْلَةَ.

نَتَعَلَّمُ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ كَيْفَ كَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَكَيْفَ كَانَ رِضَاهُمْ عَنِ اللهِ تعالى، وَتَسْلِيمُهُمْ للهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا قَضَى وَقَدَّرَ، رَغْمَ الفَقْرِ وَشِدَّتِهِ، مَا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، نَحْنُ أَهْلِ الإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَرَبُّنَا يَقْدِرُ عَلَيْنَا في الرِّزْقِ، وَكِسْرَى وَفَارِسُ أَهْلُ الكُفْرِ يُوَسِّعُ اللهُ تعالى عَلَيْهِمْ.

لِأَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّهُمْ مَا خُلِقُوا للدُّنْيَا، بَلْ خُلِقُوا لِأَنْ يَكُونَ هَمُّهُمُ الآخِرَةَ وَرِضَا اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُمْ، لِذَلِكَ مَا فُتِنُوا في دِينِهِمْ عِنْدَمَا ابْتِلَاهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِضِيقِ الرِّزْقِ، عَلَى خِلَافِ بَعْضِ النَّاسِ اليَوْمَ الذينَ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾.

وَنَتَعَلَّمُ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ أَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ يَأْكُلُ مِنَ الصَّدَقَةِ، بَلْ كَانَ يَرُدُّهَا لِفُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ، وَلَو كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِحَاجَةٍ إِلَيْهَا، لِأَنَّ الصَّدَقَاتِ ـ الزَّكَاةَ ـ هِيَ أَوْسَاخُ أَمْوَالِ النَّاسِ.

وَلَكِنْ كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ الهَدِيَّةَ، وَلَمْ يَقْصُرْهَا عَلَى ذَاتِهِ الشَّرِيفَةِ، بَلْ يُرْجِعُ مِنْهَا إلى فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ، وَخَاصَّةً أَهْلَ الصُّفَّةِ؛ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى زُهْدِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في الدُّنْيَا.

وَمِنْ كَمَالِ أَخْلَاقِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ آخِرُ القَوْمِ شُرْبًا، وَكَانَ يُعَلِّمُ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمُ الإِيثَارَ، وَيَتَحَقَّقُ بِقَوْلِهِ الذي قَالَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: « «إِنَّ سَاقِيَ الْقَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْبًا» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

هَذَا الحَدِيثُ الشَّرِيفُ وَأَمْثَالُهُ يَجْعَلُ في النَّفْسِ سَكِينَةً وَطُمَأْنِينَةً، حَيْثُ تُعَلِّمُنَا عِلْمَ اليَقِينِ أَنَّ الذي اسْتَدْعَانَا للوُجُودِ لَنْ يَتَخَلَّى عَنَّا، فَقَدْ ضَمِنَ لَنَا رِزْقَنَا فَلَا نَتْعَبْ.

خُذْ بِالأَسْبَابِ، لِأَنَّ الأَخْذَ بِالأَسْبَابِ حَتْمٌ لَازِمٌ، وَتَوَكَّلْ بَعْدَهَا عَلَى اللهِ تعالى، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ تعالى لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ.

وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ أُمَّ مَالِكٍ كَانَتْ تُهْدِي لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي عُكَّةٍ لَهَا سَمْنًا، فَيَأْتِيهَا بَنُوهَا فَيَسْأَلُونَ الأُدْمَ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ، فَتَعْمِدُ إِلَى الَّذِي كَانَتْ تُهْدِي فِيهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَتَجِدُ فِيهِ سَمْنًا، فَمَا زَالَ يُقِيمُ لَهَا أُدْمَ بَيْتِهَا حَتَّى عَصَرَتْهُ.

فَأَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «عَصَرْتِيهَا؟».

قَالَتْ: نَعَمْ.

قَالَ «لَوْ تَرَكْتِيهَا مَا زَالَ قَائِمًا (أَيْ: مَوْجُودًا حَاضِرًا)».

وَجَاءَ في السِّيرَةِ الحَلَبِيَّةِ، أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ أَهْدَتْ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَمْنًا في عُكَّةٍ فَقَبِلَهُ، وَتَرَكَ في العُكَّةِ قَلِيلًا وَنَفَخَ فِيهِ وَدَعَا بِالبَرَكَةِ، فَكَانَ يَأْتِيهَا بَنُوهَا يَسْأَلُونَهَا الأُدُمَ، فَتَعْمِدُ إلى تِلْكَ العُكَّةِ فَتَجِدُ فِيهَا سَمْنًا، فَمَا زَالَتْ تُقِيمُ بِهَا أُدُمَ بَيْتِهَا بَقِيَّةَ حَيَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا مَا كَانَ.

وَفِي رِوَايَةٍ، أَنَّهَا عَصَرَتْهَا، فَأَتَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهَا: «عَصَرْتِيهَا؟».

قَالَتْ: نَعَمْ.

قال: «لَوْ تَرَكْتِيهَا مَا زَالَ قَائِمًا».

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: اذْهَبْ إِلَى نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْ إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَغَدَّى عِنْدَنَا فَافْعَلْ.

قَالَ: فَجِئْتُهُ فَبَلَّغْتُهُ، فَقَالَ: «وَمَنْ عِنْدِي؟».

قُلْتُ: نَعَمْ.

فَقَالَ: «انْهَضُوا».

قَالَ: فَجِئْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ وَأَنَا مُدْهَشٌ لِمَنْ أَقْبَلَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

قَالَ: فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: مَا صَنَعْتَ يَا أَنَسُ؟

فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ.

قَالَ: «هَلْ عِنْدَكِ سَمْنٌ؟».

قَالَتْ: نَعَمْ، قَدْ كَانَ مِنْهُ عِنْدِي عُكَّةٌ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ سَمْنٍ.

قَالَ: «فَائْتِ بِهَا».

قَالَ: فَجِئْتُهُ بِهَا فَفَتَحَ رِبَاطَهَا، ثُمَّ قَالَ: «بِسْمِ اللهِ، اللَّهُمَّ أَعْظِمْ فِيهَا الْبَرَكَةَ».

قَالَ فَقَالَ: «اقْلِبِيهَا» فَقَلَبْتُهَا، فَعَصَرَهَا نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُسَمِّي.

قَالَ: فَأَخَذَتْ تَقَعُ فدَرَّ، فَأَكَلَ مِنْهَا بِضْعٌ وَثَمَانُونَ رَجُلًا، فَفَضَلَ فِيهَا فَضْلٌ، فَدَفَعَهَا إِلَى أُمِّ سُلَيْمٍ، فَقَالَ: «كُلِي وَأَطْعِمِي جِيرَانَكِ».

وَجَاءَ كَذَلِكَ في السِّيرَةِ عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ أُمِّ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: كَانَ لِي شَاةٌ، فَجَمَعْتُ مِنْ سَمْنِهَا مَا مَلَأْتُ بِهِ عُكَّةً وَأَرْسَلْتُ بِهَا إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَبِلَهَا، وَأَمَرَ فَفَرَّغُوهَا وَرَدُّوهَا فَارِغَةً وَكُنْتُ غَائِبَةً عَنِ المَنْزِلِ، فَلَمَّا جِئْتُ رَأَيْتُ العُكَّةَ مَمْلُوءَةً سَمْنًا، قَالَتْ: فَقُلْتُ لِلَّتِي أَرْسَلْتُهَا مَعَهَا: كَيْفَ الخَبَرُ؟

فَأَخْبَرَتْنِيَ الخَبَرَ فَمَا صَدَّقَتْهَا، وَذَهَبْتُ إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُهُ، وَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَجَّهْتُ إِلَيْكَ عُكَّةَ سَمْنٍ.

قَالَ: «قَدْ وَصَلَتْ».

فَقُلْتُ: بِالذي بَعَثَكَ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ، لَقَدْ وَجَدْتُهَا مَمْلُوءَةً سَمْنًا تَقْطُرُ.

قَالَ: «أَفَتَعْجَبِينَ أَنْ أَطْعَمَكِ اللهُ كَمَا أَطْعَمْتِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، اذْهَبِي فَكُلِي وَأَطْعِمِي» الحَدِيثَ.

لَقَدْ أَجْرَى اللهُ تعالى عَلَى يَدَيْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ المُعْجِزَاتِ وَبَعْضَ خَوَارِقِ العَادَاتِ، وَأَمَرَنَا بِحُسْنِ الاقْتِدَاءِ بِهِ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾. وَقَالَ: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.

وَمَنْ سَارَ عَلَى سَيْرِهِ قَدْ يُكْرِمُهُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ كَمَا أَكْرَمَ حَبِيبَهُ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ يُصْبِحُ بِالاتِّبَاعِ وَالاقْتِدَاءِ مَحْبُوبًا وَمُؤَيَّدًا بِجَمِيعِ جَوَارِحِهِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ».

فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مُؤَيَّدًا، وَأَنْ يَكُونَ دُعَاؤُهُ مُسْتَجَابًا فَلْيُكْثِرْ مِنَ النَّوَافِلِ، وَلْيُطَمْئِنْ قَلْبَهُ بِتَوَلِّي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لِشُؤُونِهِ وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِ، وَقَدْ تُقْضَى حَوَائِجُهُ بِتَحْرِيكِ حَوَاجِبِهِ، أَلَمْ يَقُلْ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾؟

نَحْنُ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ لِحُسْنِ الاقْتِدَاءِ بِحَضْرَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ المُؤَيَّدِ بِخَوَارِقِ العَادَاتِ، وَالتي مِنْ جُمْلَتِهَا البَرَكَةُ في الطَّعَامِ.

وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَسْتَطْعِمُهُ، فَأَطْعَمَهُ شَطْرَ وَسْقِ شَعِيرٍ، فَمَا زَالَ الرَّجُلُ يَأْكُلُ مِنْهُ وَامْرَأَتُهُ وَضَيْفُهُمَا، حَتَّى كَالَهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «لَوْ لَمْ تَكِلْهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ، وَلَقَامَ لَكُمْ».

أَيْ: بَقِيَ لَكُمْ، وَكَانَتِ البَرَكَةُ تَنْزِلُ في ذَلِكَ الطَّعَامِ، فَاسْتَطَالَ الرَّجُلُ مُدَّتَهُ فَكَالَهُ، يَنْظُرُ مَا بَقِيَ، فَلَمَّا وَقَفَ مَعَ العَادَاتِ وُكِلَ إِلَيْهَا، كَمَا وَقَفَ المَاءُ حِينَ زَمَّتْهُ هَاجَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.

وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَمَا فِي بَيْتِي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلَّا شَطْرُ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ، فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ.

أَيْ: فَرَغَ، قِيلَ: إِنَّ البَرَكَةَ مَعَ جَهْلِ المَأْخُوذِ مِنْهُ، فَلَمَّا كَالَتْهُ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عَلِمَتْ مُدَّةَ بَقَائِهِ فَفَنِيَ عِنْدَ تَمَامِ ذَلِكَ الأَمَدِ.

أَمَّا الحَدِيثُ الذي رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنِ المِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كِيلُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ لَكُمْ». فَهُوَ مَحْمُولٌ عِنْدَ المُبَايَعَةِ، عِنْدَهَا تَكُونُ البَرَكَةُ، وَهُوَ سَبَبٌ لِنَفْيِ الخِلَافِ بَيْنَ المُتَبَايِعَيْنِ، أَمَّا الكَيْلُ عِنْدَ الاتِّفَاقِ أَو الاسْتِهْلَاكِ فَمَا يَنْبَغِي حَتَّى تَبْقَى البَرَكَةُ فِيهِ، فَالبَرَكَةُ تُوجَدُ عِنْدَ البَيْعِ، وَتُمْنَعُ عِنْدَ النَّفَقَةِ. هذا، والله تعالى أعلم.

اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا بِرُؤْيَةِ هَذَا الحَبِيبِ المُبَارَكِ المُبَارِكِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 16/ ذو الحجة /1443هـ، الموافق: 15/ تموز / 2022م