27ـ الزواج الميمون

27ـ الزواج الميمون

 

عَادَتِ السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا مِنْ عِنْدِ ابْنِ عَمِّهَا وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، أُسْتَاذِهَا وَمُسْتَشَارِهَا الذي تَطْمَئِنُّ إلى قَوْلِهِ وَتَثِقُ في عِلْمِهِ، فَقَدْ كَانَ مَعْرُوفًا أَنَّهُ يَكْتُبُ الكِتَابَ العِبْرَانِيَّ، وَكَتَبَ مِنَ الإِنْجِيلِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكْتُبَ، عَادَتْ مِنْ عِنْدِهِ تَتَرَاءَى لَهَا الأَحْلَامُ التي طَمَحَتْ إِلَيْهَا عُمُرَهَا كُلَّهُ، وَيَدُورُ في خَوَاطِرِهَا أَمْرٌ يُهَدْهِدُ مَشَاعِرَهَا.

أَمْرٌ تَسْتَخْفِي بِهِ في ضَمِيرِهَا تَصَوُّنًا وَحَيَاءً، وَتَحَارُ، كَيْفَ تَسْتَعْلِنُ بِهِ في وَاقِعِهَا تَشَوُّفًا وَرَجَاءً؛ وَسَبَحَتْ مَعَ أَحْلَامِهَا تَرْجُو وَتَأْمُلُ، وَتَتَسَاءَلُ، أَحَقًّا هِيَ مُعْجِزَةُ الأَيَّامِ قَدْ آنَ أَوَانُهَا؟ وَثَمَرَةُ الأَزْمَانِ عَلى مَرِّ الدُّهُورِ قَدْ طَابَتْ وَحَانَ قِطَافُهَا؟

يَا فَرْحَةَ العُمُرِ لَو تَحَقَّقَ ذَلِكَ الحُلُمُ، وَعَاشَتْهُ عَرُوسًا هَانِئَةً لِنَبِيٍّ كَرِيمٍ؛ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

أَحَقًّا قَدْ رَضِيَتْ عَنْهَا السَّمَاءُ، فَكَشَفَتْ لَهَا بِهَذَا الإِرْهَاصِ، مِنْ وَرَاءِ سُدُوفِ الغَيْبِ أَمْرَ هَذَا النَّبِيِّ المُنْتَظَرِ، الذي أَفْنَى وَرَقَةُ وَصِحَابُهُ عُمُرَهُمْ كُلَّهُ تَطَلُّعًا لِظُهُورِهِ، وَرَصْدًا لِأَوْصافِهِ وَمْوِعِدِهِ.

فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ تُصْبِحُ لَهُ زَوْجًا وَمُعِينًا وَوَزِيرَ صِدْقٍ؟ تَهَبُهُ عُمُرَهَا وَحُبَّهَا، وَمَالَهَا، هَانِئَةً بِقُرْبِهِ وَرِضَاهُ؛ وَتَحْظَى بِهِ زَوْجًا وَمُعَلِّمًا وَحَبِيبًا، وَتَشْرُفُ بِهِ قَرِينًا فَرِيدًا مَرْغُوبًا.

فَلْتَسْعَ إلى الاقْتِرَانِ بِهِ مَا وَسِعَهَا السَّعْيُ، فَهَذَا شَرَفٌ لَا يُفَوَّتُ، وَفَضْلٌ في الحَيَاةِ وَبَعْدَ المَمَاتِ.

وَبَاتَتْ لَيْلَتَهَا تُقَلِّبُ وُجُوهَ الرَّأْيِ في سَرِيرَتِهَا، تَوَدُّ أَنْ تَجِدَ مِنْ حَيْرَتِهَا مَخْرَجًا، وَلِأَمَلِهَا في وَاقِعِ حَيَاتِهَا مَكَانًا، وَسَبَحَتْ مَعَ تَأَمُّلَاتِهَا وَأَحْلَامِهَا، وَلَكِنْ . . . كَيْف تُدْرِكُ ذَلِكَ؟

وَهِيَ التي تَقَدَّمَ إِلَيْهَا العَدِيدُ مِنْ سَادَةِ مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا خَاطِبِينَ، فَصَرَفَتْهُمْ في رِفْقٍ حَازِمٍ، يَأْبَى وَلَا يَجْرَحُ، مُتَعَلِّلَةً بِأَنَّهَا بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجَيْهَا السَّابِقَيْنِ لَا تَرْغَبُ في الزَّوَاجِ، وَحَسْبُهَا أَنْ تَعْتَنِيَ بِوَلَدَيْهَا مِنْ أَبِي هَالَةَ، وَبِنْتِهَا مِنْ عَتِيقٍ.

وَأَصْبَحَتْ شَارِدَةً سَاهِمَةً، تُفَكِّرُ في أَمْرِهَا، وَتَسْبَحُ مَعَ أُمْنِيَتِهَا، وَتُقَلِّبُ النَّظَرَ فِيمَا يُبَلِّغُهَا مَا تَتَمَنَّى، عَلَّهَا تَجِدُ سَبِيلًا تَصِلُ بِهِ إلى مَا تُرِيدُ.

وَمَرَّتْ أَيَّامُهَا بَطِيئَةً مُثْقَلَةً، وَبَيْنَمَا هِيَ في سُهُومِهَا وَوُجُومِهَا، لَمَحَتْهَا عَيْنٌ ذَكِيَّةٌ، عَرَفَتْ أَنَّ أَعْمَاقَهَا تَمُوجُ بِمَا لَا تَسْتَطِيعُ البَوْحَ بِهِ، كَانَتْ هَذِهِ العَيْنُ عَيْنَ صَدِيقَتِهَا مَوْضِعِ سِرِّهَا، نَفِيسَةَ بِنْتِ مُنَبِّه، التي سُرْعَانَ مَا سَأَلَتْهَا مُشْفِقَةً: مَا شَأْنُكِ يَا خَدِيجَةُ؟ عَهْدِي بِكِ مَعَ حَزْمِكِ بَشُوشًا وَدُودًا، فَمَا هَذَا الوُجُومُ وَمَا هَذَا الشُّرُودُ؟

وَتَرَدَّدَتْ خَدِيجَةُ، وَلَاذَتْ بِالصَّمْتِ حِينًا، ثُمَّ حَزَمَتْ أَمْرَهَا، وَأَفْضَتْ إلى صَدِيقَتِهَا بِدَخِيلَةِ نَفْسِهَا، يَا نَفِيسَةُ، إِنِّي أَرَى في مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ مَا لَا أَرَاهُ في غَيْرِهِ مِنَ الرِّجَالِ، فَهُوَ الصَّادِقُ الأَمِينُ، وَهُوَ الشَّرِيفُ الحَسِيبُ، وَهُوَ الشَّهْمُ الكَرِيمُ، وَهُوَ إلى ذَلِكَ لَهُ نَبَأٌ عَجِيبٌ، وَشَأْنٌ غَرِيبٌ، وَقَدْ سَمِعْتِ مَا قَالَهُ مَيْسَرَةُ غُلَامِي عَنْهُ، وَرَأَيْتِ مَا كَانَ يُظَلِّلُهُ حِينَ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ سَفْرَتِهِ، وَمَا تَحَدَّثَ بِهِ الرُّهْبَانُ عَنْهُ؛ وَإِنَّ فُؤَادِي لَيَكَادُ يَجْزِمُ بِأَنَّهُ نَبِيُّ هَذِهِ الأُمَّةِ.

فَقَالَتْ نَفِيسَةُ: وَمَاذَا يَشْغَلُ بَالَكِ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى تُصْبِحِي في هَذِهِ الحَالَةِ مِنَ السُّهُومِ وَالشُّرُودِ؟

فَقَالَتْ لَهَا: أَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ لِي زَوْجًا، وَلَا أَدْرِي كَيْفَ أَصِلُ إلى ذَلِكَ.

فَقَالَتْ نَفِيسَةُ: تَأْذَنِينَ وَأَنَا أُدَبِّرُ الأَمْرَ؟

فَسُرَّتْ خَدِيجَةُ وَقَالَتْ في فَرَحٍ: افْعَلِي يَا نَفِيسَةُ مَا تَسْتَطِيعِينَ.

وَانْسَلَّتْ نَفِيسَةُ تَتَحَسَّسُ مَكَانَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأَمِينِ، حَتَّى لَقِيَتْهُ مُنْفَرِدًا مَعَ نَفْسِهِ فَحَيَّتْهُ ثُمَّ قَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ، مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَتَزَوَّجَ؟

فَقَالَ: مَا بِيَدِي مَا أَتَزَوَّجُ بِهِ.

فَقَالَتْ: فَإِنْ كُفِيتَ ذَلِكَ وَدُعِيتَ إِلَى الْجَمَالِ وَالْمَالِ وَالشَّرَفِ وَالْكَفَاءَةِ أَلا تُجِيبُ؟

قَالَ: فَمَنْ هِيَ؟

قَالَتْ: خَدِيجَةُ.

قَالَ: وَكَيْفَ لِي بِذَلِكَ؟

قَالَتْ: عَلَيَّ.

قَالَ: فَأَنَا أَفْعَلُ.

قَالَتْ: فَذَهَبْتُ فَأَخْبَرْتُهَا، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أَنِ ائْتِ لَسَاعَةِ كَذَا وَكَذَا.

وَأَرْسَلَتْ إِلَى عَمِّهَا عَمْرِو بْنِ أَسَدٍ لِيُزَوِّجَهَا. فَحَضَرَ وَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي عُمُومَتِهِ؛ فَزَوَّجَهُ أَحَدُهُمْ.

فَقَالَ عَمْرُو بْنُ أَسَدٍ: هَذَا الْبِضْعُ لا يُقْرَعُ أَنْفُهُ؛ وَتَزَوَّجَهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. كذا في الطبقات الكبرى.

وَجَاءَ في سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ أَنَّهَا قَالَتْ لَهُ: يَا بْنَ عَمِّ، إنِّي قَدْ رَغِبْتُ فِيكَ لِقَرَابَتِكَ وَسِطَتِكَ (مِنَ الوَسَطِ، وَالوَسَطُ مِنْ أَوْصَافِ المَدْحِ وَالتَّفْضِيلِ) فِي قَوْمِك وَأَمَانَتِكَ، وَحُسْنِ خُلُقِكَ، وَصِدْقِ حَدِيثِكَ، ثُمَّ عَرَضْتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا؛ وَكَانَتْ خَدِيجَةُ يَوْمئِذٍ أَوْسَطَ نِسَاءِ قُرَيْشٍ نَسَبًا، وَأَعْظَمَهُنَّ شَرَفًا، وَأَكْثَرَهُنَّ مَالًا.

وَتَرْوِي السِّيرَةُ الحَلَبِيَّةُ في ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ خَدِيجَةُ اسْتَأذَنَ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ في أَنْ يَتَوَجَّهَ لِخَدِيجَةَ، فَأَذِنَ لَهُ، وَبَعَثَ بَعْدَهُ جَارِيَةً لَهُ يُقَالُ لَهَا نَبْعَةُ، فَقَالَ: انْظُرِي مَا تَقُولُ لَهُ خَدِيجَةُ، فَخَرَجَتْ خَلْفَهُ، فَلَمَّا جَاءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى خَدِيجَةَ أَخَذَتْ بِيَدِهِ فَضَمَّتْهَا إلى صَدْرِهَا وَنَحْرِهَا، ثُمَّ قَالَتْ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، وَاللهِ مَا أَفْعَلُ هَذَا الشَّيْءَ، وَلَكِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونَ أَنْتَ النَّبِيَّ الذي سَيُبْعَثُ، فَإِنْ تَكُنْ هُوَ فَاعْرِفْ حَقِّي وَمَنْزِلَتِي، وَادْعُ الإِلَهَ الذي سَيَبْعَثُكَ لِي.

فَقَالَ لَهَا: وَاللهِ لَئِنْ كُنْتُ أَنَا هُوَ لَقَدِ اصْطَنَعْتِ عِنْدِي مَا لَا أُضَيِّعُهُ أَبَدًا، وَإِنْ كَانَ غَيْرِي فَإِنَّ الإِلَهَ الذي تَصْنَعِينَ هَذَا لِأَجْلِهِ لَا يُضَيِّعُكَ أَبَدًا.

وَحَدَّدَتْ لَهُ مَوْعِدًا، فَحَضَرَ وَمَعَهُ أَعْمَامُهُ فِيهِمْ أَبُو طَالِبٍ، وَالعَبَّاسُ وَحَمْزَةُ، فَخَطَبُوهَا مِنْ عَمِّهَا، لِأَنَّ أَبَاهَا قُتِلَ في حَرْبِ الفِجَارِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَامَ أَبُو طَالِبٍ خَطِيبًا فَقَالَ:

الحَمْدُ للهِ الذي جَعَلَنَا مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَزَرْعِ إِسْمَاعِيلَ، وَضِئْضِئِ مَعَدٍّ ـ أَيْ: مَعْدِنِهِ ـ وَعُنْصِرِ مُضَرٍ ـ أَيْ: أَصْلِهِ ـ وَجَعَلَنَا حَضَنَةَ بَيْتِهِ ـ أَيْ: المُتَكَفِّلِينَ بِشَأْنِهِ ـ وَسُوَّاسَ حَرَمِهِ ـ أَيْ: القَائِمِينَ بِخِدْمَتِهِ ـ وَجَعَلَهُ لَنَا بَيْتًا مَحْجُوجًا، وَحَرَمًا آمِنًا، وَجَعَلَنَا حُكَّامَ النَّاسِ؛ ثُمَّ إِنَّ ابْنَ أَخِي هَذَا مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللهِ لَا يُوزَنُ بِهِ رَجُلٌ إِلَّا رَجَحَ بِهِ شَرَفًا وَنُبْلًا وَفَضْلًا وَعَقْلًا، وَإِنْ كَانَ في المَالِ قَلَّ، فَإِنَّ المَالَ ظِلٌّ زَائِلٌ، وَأَمْرٌ حَائِلٌ، وَعَارِيَةٌ مُسْتَرْجَعَةٌ، وَهُوَ وَاللهِ بَعْدَ هَذَا لَهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ، وَخَطَرٌ جَلِيلٌ، وَقَدْ خَطَبَ إِلَيْكُمْ رَغْبَةً في كَرِيمَتِكُمْ خَدِيجَةَ، وَقَدْ بَذَلَ لَهَا مِنَ الصَّدَاقِ مَا عَاجِلُهُ وَآجِلُهُ اثْنَتَيْ عَشْرَةُ أُوقِيَّةٍ وَنَشًّا (وَالنَّشُّ عَشْرُونَ دِرْهَمًا، وَالأُوقِيَّةُ: أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَكَانَتِ الأَوَاقِي وَالنَّشُّ مِنْ ذَهَبٍ كَمَا قَالَ المُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: أَيْ: فَيَكُونُ جُمْلَةُ الصَّدَاقِ خَمْسَمِئَةِ دِرْهَمٍ شَرْعِيٍّ). كَذَا في السِّيرَةِ الحَلَبِيَّةِ.

وَقِيلَ: أَصْدَقَهَا عِشْرِينَ بَكْرَةً. (أَقُولُ: لَا مُنَافَاةً، لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ البَكَرَاتُ عِوَضًا مِنَ الصَّدَاقِ المَذْكُورِ).

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَبُو طَالِبٍ أَصْدَقَهَا مَا ذَكَرَ (أَيْ: الذَّهَبَ) وَزَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِ تِلْكَ البَكَرَاتِ في صَدَاقِهَا، فَكَانَ كُلُّ ذَلِكَ صَدَاقًا. والله تعالى أعلم.

وَقَامَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ يُجِيبُ أَبَا طَالِبٍ فَقَالَ:

الحَمْدُ للهِ الذي جَعَلَنَا كَمَا ذَكَرْتَ، وَفَضَّلَنَا عَلَى مَا عَّدَدْتَ، فَنَحْنُ سَادَةُ العَرَبِ وَقَادَتُهَا، وَأَنْتُمْ أَهْلُ ذَلِكَ كُلِّهِ لَا يُنْكِرُ العَرَبُ فَضْلَكُمْ، وَلَا يَرُدُّ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ فَخْرَكُمْ وَشَرَفَكُمْ، وَرَغْبَتُنَا في الاتِّصَالِ بِحَبْلِكُمْ وَشَرَفِكُمْ، فَاشْهَدُوا عَلَيَّ مَعاشِرَ قُرَيْشٍ إِنِّي قَدْ زَوَّجْتُ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَدِ اللهِ، وَذَكَرَ المَهْرَ.

فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: قَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ يُشْرِكَكَ عَمُّهَا.

فَقَالَ عَمُّهَا: اشْهَدُوا عَلَيَّ مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ إِنِّي قَدْ أَنْكَحْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللهِ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ؛ وَأَوْلَمَ عَلَيْهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، نَحَرَ جَزُورًا، وَقِيلَ جَزُورَيْنِ، وَأَطْعَمَ النَّاسَ، وَأَمَرَتْ خَدِيجَةُ جَوَارِيَهَا أَنْ يَرْقُصْنَ وَيَضْرِبْنَ الدُّفُوفَ، وَفَرِحَ أَبُو طَالِبٍ فَرَحًا شَدِيدًا، وَقَالَ: الحَمْدُ للهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الكَرْبَ، وَدَفَعَ عَنَّا الغُمُومَ. كَذَا في السِّيرَةِ الحَلَبِيَّةِ.

لَمَّا انْتَهَى العَقْدُ فَتَحَتِ السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا دَارَهَا للأَهْلِ وَالأَصْدِقَاءِ، فَإِذَا بَيْنَهُمُ السَّيِّدَةُ حَلِيمَةُ السَّعْدِيَّةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا، قَدْ جَاءَتْ مِنَ البَادِيَةِ مِنْ بَادِيَةِ بَنِي سَعْدٍ، لِتَشْهَدَ عُرْسَ وَلَدِهَا الذي أَرْضَعَتْهُ، ثُمَّ تَعُودُ في الغَدَاةِ وَمَعَهَا أَرْبَعُونَ رَأْسًا مِنَ الغَنَمِ، هِبَةً مِنَ العَرُوسِ الكَرِيمَةِ أُمِّنَا السَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا لِتِلْكَ المَرْأَةِ التي أَرْضَعَتْ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ زَوْجَهَا الحَبِيبَ.

وَفَرِحَ أَهْلُ مَكَّةَ بِهَذَا الزَّوَاجِ المَيْمُونِ، حَتَّى إِنَّهُمْ قَامُوا يَتَغَنُّونَ بِذَلِكَ سُرُورًا وَغِبْطَةً يَقُولُونَ مُنْشِدِينَ:

لَا تَزْهَدِي خَدِيجُ في مُحَمَّدِ   ***   نَجْمٌ يُضِيءُ كَضِيَاءِ الفَرْقَدِ

وَفي هَذَا يَقُولُ صَاحِبُ الهَمْزِيَّةِ الإِمَامُ البُوصِيرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى:

وَرَأَتْهُ خَدِيجَةُ وَالـتُّقَى وَالــزُّهْـ   ***   ـدُ فِـيهِ سَــجِــيَّةٌ وَالحَيَـــاءُ

وَأَتَـاهَا أَنَّ الــغَمَامَةَ وَالــسَّرْحَ   ***   أَظَلَّتْهُ مِنْهُمَا أَفْيَـــــــــــــاءُ

وَأَحَادِيثُ أَنَّ وَعْدَ رَسُـولِ اللَّـ   ***   ـهِ بِالبَعْثِ حَانَ مِنْهُ الوَفَـــاءُ

فَــدَعَتْهُ إلى الـــزَّوَاجِ وَمَــــا    ***   أَحْسَنَ أَنْ يَبْلُغَ المُنَى الأَذْكِيَاءُ

وَيَقُولُ شَاعِرٌ آخَرُ:

بَـــعَــثَــتْ إِلَيْهِ وَإِنَّهَــا لَأَبِيَّةٌ   ***   مَــاذَا عَــلَيْهَا إِنْ أَحَبَّتْ أَحْمَــدَا

مَاذَا إِذَا خَطَبَتْهُ وَهْيَ عَـفِــيفَةٌ   ***   أَتُعَابُ مَنْ تَرْجُو الزَّوَاجَ لِتَسْعَدَا

إِيهِ خَدِيجَةُ قَدْ سَنَنْتِ شَرِيعَــةً   ***   وَأَبَى فُؤَادُكِ عِزَّةً أَنْ يَــخْــمُـدَا

وَجَعَلْتِ للفَتَيَاتِ حَــقَّ تَخَيُّـرٍ   ***   أَفَكُنْتِ تَدْرِينَ الذي يَأْتِي غَـــدَا

وَرَضِيتِ بِالشَّهْمِ الفَقِيرِ وَقَبْلَهُ   ***   أَعْرَضْتِ عَمَّنْ في غِنَاهُ تَــــفرَّدَا

وَيَقُولُ آخَرُ:

قَــدْ رَأَتْــهُ بَـيْنَ الكِرَامِ فَـرِيدًا   ***   وَافِيَ الــفَضْلِ صَــادِقًا مَحْمُـــودًا

وَأُولُو العِلْمِ قَدْ رَأَوْهُ حَــرِيًّــا   ***   أَنْ يَكُونَ المُنَبَّأَ المَـــوْعُـــــــــودَا

قَالَ نَسْطُورُ مِثْلَ قَوْلِ بَـحِيرَى   ***   هُوَ بُشْرَى المَسِيحِ صَارَتْ وُجُودَا

في الأَنَاجِيلِ وَصْفُهُ مَــكْتُوبٌ   ***   وَنَرَاهُ في كُـــتُبِنَا مَـــوْجُــــــودَا

وَسَجَايَاهُ تَاجُ كُلِّ الـــسَّجَايَا    ***   حَازَ كُلَّ الـــفَـــخَارِ فَذًّا حَـمِيدَا

فَدَعَتْهُ خَدِيجَةُ الــنُّبْلِ زَوْجًـا    ***   وَأَجَابَ الأَمِينُ سَمْحًا سَـــعِيــدَا

خَيْرُ زَوْجَيْنِ في البَرِيَّةِ طُــهْرًا   ***   وَوَفَاءً وَعِــــفَّــــةً وَجُـــــدُودَا

في تَفْسِيرِ سُورَةِ الضُّحَى:

في هَذَا المَقَامِ نَجِدُ الزَّمَخْشَرِيَّ يَقُولُ عِنْدَ تَفْسِيرِهِ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنَى﴾ وَوَجَدَكَ عائِلًا: فَقِيرًا؛ وَقُرِئَ: عَيِّلًا، كَمَا قُرِئَ: عَدِيمًا ﴿فَأَغْنَى﴾ فَأَغْنَاكَ بِمَالِ خَدِيجَةَ، أَوْ بِمَا أَفَاءَ عَلَيْكَ مِنَ الغَنَائِمِ.

وَكَذَلِكَ يَقُولُ الإِمَامُ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: يَقُولُ: ﴿وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنَى﴾ أَيْ: أَغْنَاكَ بِخَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.

وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كُلِّهِ كَافَأَهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَجَازَاهَا عَلَى إِحْسَانِهَا إِلَيْهِ في حَيَاتِهَا بِأَنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَيْهَا غَيْرَهَا، وَبَلَغَتْ مِنْهُ مَبْلَغًا لَمْ تَبْلُغْهُ امْرَأَةٌ قَطُّ مِنْ زَوْجَاتِهِ بَعْدَهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ جَمِيعًا، وَكَافَأَهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنْ جَعَلَهَا دُونَ كُلِّ نِسَائِهِ أُمَّ ذُرِّيَّتِهِ، وَجَدَّةَ عِتْرَتِهِ.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 6/ محرم /1444هـ، الموافق: 4/ آب / 2022م