831ـ خطبة الجمعة: منزلة الفاروق رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

831ـ خطبة الجمعة: منزلة الفاروق رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: خَيْرُ القُرُونِ قَرْنُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَخَيْرُ العُصُورِ عَصْرُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَخَيْرُ الرِّجَالِ عَلَى الإِطْلَاقِ بَعْدَ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَصْحَابُهُ الكِرَامُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ، لِأَنَّهُمْ نَالُوا شَرَفَ الصُّحْبَةِ بِاخْتِيَارِ اللهِ تعالى لَهُمْ.

وَقَدْ أَثْنَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمْ في كِتَابِهِ العَظِيمِ بِقَوْلِهِ: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾.

وَبَعْدَ الثَّنَاءِ أَثْبَتَ رِضَاهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.

مَنْزِلَةُ الفَارُوقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:

يَا عِبَادَ اللهِ: مَعَ عَظَمَةِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ هُنَاكَ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ مِنْ أَعْظَمِ العُظَمَاءِ، مِنْهُمْ سَيِّدُنَا عُمَرُ الفَارُوقُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، لَقَدْ كَانَ عَظِيمًا بِإِيمَانِهِ، وَبِعِلْمِهِ، وَبِفِكْرِهِ، وَبِبَيَانِهِ، وَبِخُلُقِهِ، وَبِآثَارِهِ، فَقَدْ جَمَعَ العَظَمَةَ مِنْ أَطْرَافِهَا، وَكَانَتْ عَظَمَتُهُ مُسْتَمَدَّةً مِنْ فَهْمِهِ، وَالْتِزَامِهِ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَاتِّبَاعِهِ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَعَظِيمِ صِلَتِهِ بِاللهِ تعالى.

لَقَدْ كَان حَبِيبًا للهِ عَزَّ وَجَلَّ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلَامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ، بِأَبِي جَهْلٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ».

قَالَ: وَكَانَ أَحَبَّهُمَا إِلَيْهِ عُمَرُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «إِيهًا يَا بْنَ الخَطَّابِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا قَطُّ، إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ» رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَفي رِوَايَةٍ للطَّبَرَانِيِّ في الكَبِيرِ عَنْ سُدَيْسَةَ، مَوْلَاةِ حَفْصَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ لَمْ يَلْقَ عُمَرَ مُنْذُ أَسْلَمَ إِلَّا خَرَّ لِوَجْهِهِ».

لَقَدْ كَانَ أَحَبَّ أَصْحَابِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، بَعْدَ سَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَمْرَو بْنَ العَاصِ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السُّلَاسِلِ، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: أَيُّ النَّاسِ، أَحَبُّ إِلَيْكَ؟

قَالَ: «عَائِشَةُ».

قُلْتُ: مِنَ الرِّجَالِ؟

قَالَ: «أَبُوهَا».

قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟

قَالَ: «عُمَرُ».

فَعَدَّ رِجَالًا، فَسَكَتُّ مَخَافَةَ أَنْ يَجْعَلَنِي فِي آخِرِهِمْ

وَرَوَى الإِمَامُ التِّرِمِذِيُّ وَأَحْمَدُ وَالحَاكِمُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ».

فَهُوَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ المُلْهَمُ، الذي كَانَ يَقُولُ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَنَزَلَتْ: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾.

وَآيَةُ الحِجَابِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ، فَإِنَّهُ يُكَلِّمُهُنَّ البَرُّ وَالفَاجِرُ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الحِجَابِ.

وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي الغَيْرَةِ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُنَّ: ﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ﴾. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ.

المُصَاهَرَةُ بَيْنَ الفَارُوقِ وَأَبِي الحَسَنَيْنِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: مَنْ أَحَبَّهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، أَحَبَّهُ الصَّحَابَةُ، وَخَاصَّةً أَهْلَ البَيْتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَعَلَى رَأْسِهِمْ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.

وَمَنْ فَرْطِ حُبِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِسَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ زَوَّجَهُ ابْنَتَهُ السَّيِّدَةَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ السَّيِّدَةِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا، كَمَا أَقَرَّ هَذَا جَمِيعُ أَهْلِ التَّارِيخِ وَالأَنْسَابِ وَالعِلْمِ وَالفِقْهِ.

وَعِنْدَمَا اسْتَشْهَدَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ تَرَحَّمَ عَلَيْهِ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: وُضِعَ عُمَرُ عَلَى سَرِيرِهِ فَتَكَنَّفَهُ النَّاسُ، يَدْعُونَ وَيُصَلُّونَ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ وَأَنَا فِيهِمْ، فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا رَجُلٌ آخِذٌ مَنْكِبِي، فَإِذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَتَرَحَّمَ عَلَى عُمَرَ، وَقَالَ: مَا خَلَّفْتَ أَحَدًا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَلْقَى اللهِ بِمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْكَ، وَايْمُ اللهِ إِنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ، وَحَسِبْتُ أَنِّي كُنْتُ كَثِيرًا أَسْمَعُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «ذَهَبْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَدَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَخَرَجْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَا يَعْرِفُ الفَضْلَ لِأَهْلِ الفَضْلِ إِلَّا ذَوُوهُ، وَلَا يَعْرِفُ المَكَانَةَ لِأَهْلِ المَكَانَةِ إِلَّا أَرْبَابُهَا، وَلَقَدْ عَرَفَ أَهْلُ البَيْتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ مَكَانَةَ الفَارُوقِ عِنْدَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَأَحَبُّوهُ، وَأَنْزَلُوهُ المَنْزِلَةَ التي تَلِيقُ بِهِ، وَمِنْ فَرْطِ حُبِّهِمْ لَهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ جَمِيعًا أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ أَبْنَاءَهُمْ بِاسْمِهِ، حُبًّا وَإِعْجَابًا بِشَخْصِيَّتِهِ، وَتَقْدِيرًا لِأَفْعَالِهِ التي قَدَّمَهَا لِدِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.

وَأَوَّلُ مَنْ سَمَّى وَلَدَهُ بِاسْمِهِ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ زَوْجَتِهِ أُمِّ حَبِيبٍ بِنْتِ رَبِيعَةَ، وَكَذَلِكَ سَيِّدُنَا الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَمَّى وَلَدَهُ بِاسْمِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنْزَالُ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ شَعِيرَةٌ مِنْ شَعَائِرِ هَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، لِقَوْلِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُنَزِّلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ. رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ.

اللَّهُمَّ وَفِقْنَا لِمَا يُرْضِيكَ عَنَّا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 28/محرم /1444هـ، الموافق: 26/ آب / 2022م