29ـ كلمة شهر رجب 1430هـ: (بهذا سُدْتَ)

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقد لقي سيدنا علي رضي الله عنه أعرابياً، فأعجبه حاله، فسأله: بم نلت هذه الحالة؟

فقال: لم أسمع شيئاً لا أعرفه إلا بحثت فيه حتى أعرفه، ولم أعرف شيئاً فامتنعت أن أعلِّمه من لا يعرفه.

فقال له سيدنا علي رضي الله عنه: بهذا سُدْتَ.

ما أجمل الرجل عندما يكون شعلة من النشاط في تعلم العلم وفي تعليمه، لأن جمال الرجل وكماله في التعلم والتعليم، قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا} وقال: {يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ}.

ويقول صلى الله عليه وسلم: (أَلا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالاهُ وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ) رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب.

ويقول صلى الله عليه وسلم: (مَنْ جَاءَ مَسْجِدِي هَذَا لَمْ يَأْتِهِ إِلا لِخَيْرٍ يَتَعَلَّمُهُ أَوْ يُعَلِّمُهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَنْ جَاءَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ يَنْظُرُ إِلَى مَتَاعِ غَيْرِهِ) رواه أحمد وابن ماجه.

ومن وصايا لقمان الحكيم لابنه: يا بني لا تعلَّم العلم لتباهي به العلماء، أو لتماري به السفهاء، أو ترائيَ به في المجالس، ولا تترك العلم زهداً فيه ورغبة في الجهالة.

يا بني اختر المجالس على عينك، وإذا رأيت قوماً يذكرون الله فاجلس معهم، فإنك أن تكن عالماً ينفعك علمك، وإن تكن جاهلاً يعلموك، ولعل الله أن يطلع عليهم برحمة فيصيبك بها معهم.

وإذا رأيت قوماً لا يذكرون الله تعالى فلا تجلس معهم، فإنك إن تكن عالماً لا ينفعك علمك، وإن تكن جاهلاً زادوك غياً أو عياً، ولعل الله يطلع عليهم بعذاب فيصيبك معهم. رواه الدارمي.

ومن كلام سيدنا عمر رضي الله عنه: تعلَّموا العلم وعلِّموه الناس، وتعلَّموا له الوقار والسكينة، وتواضعوا لمن تعلمتم منه، ولمن علَّمتموه، ولا تكونوا جبابرة العلماء فلا يقوم جهلكم بعلمكم. رواه البيهقي في شعب الإيمان وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله.

وقال سيدنا علي رضي الله عنه لرجل من أصحابه: يا كُمَيْل، العلم خير من المال، العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، والعلم حاكم والمال محكوم عليه، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو بالإنفاق. اهـ. رواه أبو نعيم في الحلية.

هكذا كان سلفنا الصالح، كانوا حريصين على التعلم والتعليم لأنه طريق السيادة، وسمة العارفين، حتى لم يكن الأستاذ يتحرَّج من الإفادة من تلميذه، لأنه قد يكون في المفضول ما ليس في الفاضل، وخير مثال على ذلك ما ذكره الله تعالى في القرآن الكريم من قصة سيدنا سليمان عليه السلام مع الهدهد: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِين * لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِين * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِين} فما هو المانع أن يتعلَّم الفاضل من المفضول ما ليس عنده؟

قال الحميدي تلميذ الإمام الشافعي رحمه الله: إلى البصرة فكان يستفيد مني الحديث وأستفيد منه المسائل.

الشافعي يتعلَّم من تلميذه بدون حرج، هذه هي قوة الشخصية في العالم، ورحم الله تعالى سيدنا علياً رضي الله عنه عندما قال: لا تحقرنَّ أحداً آتاه الله علماً، فإن الله لم يحقره حين آتاه العلم. اهـ.

أما حالنا اليوم:

فجمال الرجل وكماله، والفاضل من الرجال، هو صاحب المال والجاه والثياب والمركب والمسكن، ولو إذا نطق أفرز جهلاً ما بعده جهل.

ويا حبذا لو كان كلام هؤلاء الرجال على مستوى مالهم وجاههم وثيابهم ومركوبهم ومسكنهم، أو لبسوا وركبوا وسكنوا على مستوى كلامهم.

كن سائلاً:

يقول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون}.

فنحن مأمورون بنص القرآن أن نسأل لاستكشاف الآيات الكريمة في الأنفس والآفاق، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد}.

فإذا ما سألت فكن موضوعياً في السؤال، سل عما ينفعك في دينك ودنياك، سل عما يتعلَّق بحياتك اليومية، سل عما يتعلَّق بحياتك البرزخية، سل عما يتعلَّق بحياتك الأخروية، لا تسأل عن أشياء إن عرفتها ما نفعتك شيئاً، وإن جهلتها ما ضرَّتك شيئاً. سل عن أمور لا تضيع وقتك وجهدك ووقت وجهد المسؤول فيما لا يجدي. سل بدون قصد الإحراج، سل بدون استدراج العالِم، سل بدون إثارة للفتنة.

انظر إلى الإمام الشافعي رحمه الله كيف كان يعلِّم أتباعه أدب السؤال وفنَّه:

قال المزني: سألت الشافعي عن مسألة في الكلام فقال: سلني عن شيء إذا أخطأتُ فيه قلتَ: أخطأت، ولا تسألني عن شيء إذا أخطأتُ فيه قلت: كفرت.

فعلَّمه الإمام الشافعي رحمه الله أن لا يسأل عن مسائل تفضي إلى اتهام الآخرين بالكفر، وأرشده إلى البحث عن أسئلة حيوية لا يُخرِجُ الخطأ فيها من دائرة الإيمان.

ونزِّه نفسك عن السؤال فيما تعلم، وإلا كنت عائباً أو مغرضاً، لأن ربنا عز وجل يقول: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون}، فإذا كنت تعلم فلماذا السؤال؟ الله تعالى مطَّلع على النوايا.

انقل العلم إلى التطبيق:

تعلَّمْ لتعمل، ولا تتعلم للمباهاة أو المماراة أو الرياء، لأن ربنا عز وجل يقول: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون}، ويقول تعالى: {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى}. لأنه ما فائدة العلم بدون عمل؟ فعلم بلا عمل جنون، وعمل بدون علم لا يكون.

اسمع إلى هذا الحديث الشريف:

روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ، قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الأُولَى، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الأُولَى. فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ: إِنِّي لاحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلاثًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ، قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ أَنَسٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلاثَ، فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ لِصَلاةِ الْفَجْرِ.

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلا خَيْرًا، فَلَمَّا مَضَتْ الثَّلاثُ لَيَالٍ وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ، قُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلا هَجْرٌ ثَمَّ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَكَ ثَلاثَ مِرَارٍ: (يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلاثَ مِرَارٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ فَأَقْتَدِيَ بِهِ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: مَا هُوَ إِلا مَا رَأَيْتَ، قَالَ: فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي فَقَالَ: مَا هُوَ إِلا مَا رَأَيْتَ، غَيْرَ أَنِّي لا أَجِدُ فِي نَفْسِي لأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لا نُطِيقُ.

سيدنا عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما طالب علم عند سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أن ينقل العلم إلى تطبيق، فأراد أن ينافس هذا الرجل في عمله.

والسر الكبير في هذه القصة هو سلامة القلب، لأن العمل الظاهر يتقنه كل واحد، أما عمل القلب فلا. قال تعالى: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُون * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم}. فظاهر العبادة لا يغني عن القلب السليم الودود المخلص.

وختاماً:

إذا كنا لا نعلم غيب الإنسان وباطنه، فعلينا بحسن الظن، وحسن الظن بالله تعالى وبالمؤمنين من أحب الأعمال إلى الله تعالى.

فيا من أراد السعادة عليك بالعلم والعمل. اللهم اجعلنا كذلك. آمين. والحمد لله رب العالمين.

أخوكم أحمد النعسان

يرجوكم دعوة صالحة

**     **     **