18ـ وصف ظهره الشريف صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

18ـ وصف ظهره الشريف صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ:

يَقُولُ سَيِّدُنَا حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:

وَأَجْمَلَ مِنْكَ لَمْ تَرَ قَطُّ عَيْنِي   ***   وَأَفْضَلَ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النِّسَاءُ

خُـلِقْتَ مُبَرَّأً مِنْ كُلِّ عَيْبٍ   ***   كَأَنَّكَ قَدْ خُلِقْتَ كَمَا تَـشَاءُ

وَصْفُ ظَهْرِهِ الشَّرِيفِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

كَانَ ظَهْرُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَاسِعًا، جَمِيلَ الْمَنْظَرِ وَالصُّورَةِ، تربَّعَ عَلى نَاغِضِهِ الأَيْسَرِ مِنْ جِهَةِ الْقَلْبِ خَاتَمُ النُّبوَّةِ: تَقُولُ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَاسِعَ الظَّهْرِ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ، وَكَانَ طَوِيلَ مَسْرَبَةِ الظَّهرِ. أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ في الدَّلَائِلِ.

وَالنَّاغِضُ: أَعْلَى الكَتِفِ وَقِيْلَ: هُوَ العَظْمُ الرَقيقُ الَّذي عَلى طَرَفِهِ، وَقِيلَ: مَا يَظْهَرُ مِنْهُ عِنْدَ التَّحَرُكِ سُمِّيَ نَاغِضًا لِتَحَرُّكِهِ.

وَالمَسْرَبَةُ: هِيَ الفِقَارُ الَّتِي فِي الظَّهْرِ مِنْ أَعْلَاهُ إِلَى أَسْفَلِهِ.

وَكَانَ مُتَلَأْلِئًا، كَأَنَّهُ سَبِيكَةُ الْفِضَّةِ فِي اسْتِوَائِهِ وَصَفَائِهِ: فَعَنْ مُحَرِّشٍ الْكَعْبِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ لَيْلًا، فَنَظَرْتُ إِلَى ظَهْرِهِ كَأَنَّهُ سَبِيكَةُ فِضَّةٍ. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ.

هَذَا الظَّهْرُ المُبَارَكُ: اسْتَقَلَّهُ صَبِيٌّ فَصَعِدَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَقُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ، بَلْ أَخَّرَ فِي السُّجُودِ لِئَلَّا يُعَكِّرَ صَفْوَ سَعَادَتِهِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَاجِدٌ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ إِمَامًا، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعَشِيِّ ـ الظُّهْرِ أَوِ الْعَصْرِ ـ وَهُوَ حَامِلُ الحَسَنِ أَوْ الْحُسَيْنِ فَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَهُ، ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ، فَصَلَّى، فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَيْ صَلَاتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا، قَالَ أَبِي: رَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهَرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَرَجَعْتُ فِي سُجُودِي، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ، قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَيِ الصَّلَاةِ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ، أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ؟ قَالَ: «كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي، فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ».

في هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ تَعْوِيدٌ للأَطْفَالِ عَلَى الارْتِبَاطِ بِالمَسْجِدِ، وَتَوْجِيهُهُمْ إِلَيْهِ، وَتَعْوِيدُهُمْ عَلَى صَلَاةِ الجَمَاعَةِ في المَسْجِدِ، فَالمَسْجِدُ لَهُمْ رَوْضَةٌ يَتَعَلَّمُونَ فِيهِ الآدَابَ.

وَإِذَا كَانَ عُلَمَاءُ النَّفْسِ يُرْشِدُونَ إلى عَدَمِ نَهْرِ الطِّفْلِ في المَسْجِدِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَثِّرُ في شَخْصِيَّتِهِ، فَنَحْنُ نَجِدُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَبَقَهُمْ إلى ذَلِكَ.

وَمَوْقِفُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هَذَا فِيهِ تَهْذِيبٌ للطِّبَاعِ الشَّرِسَةِ التي تَصْدُرُ مِنْ بَعْضِ الرِّجَالِ، فإِصْلَاحُ نَفْسِ الطِّفْلِ وَإِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى قَلْبِهِ مِنَ الأُمُورِ المُهِمَّةِ في تَرْبِيَةِ الأَطْفَالِ، فَاللهُ تَبَارَكَ وتعالى لَيَقْبَلُ صَلَاةَ العَبْدِ التي فِيهَا شُغْلٌ شَاغِلٌ في العَطْفِ وَالحَنَانِ عَلَى الأَطْفَالِ.

وَكُلُّ أَبٍ وَأُمٍّ يَرَيَانِ فَسَادَ أَوْلَادِهِمَا وَعُقُوقَهُمْ لَهُمَا عِنْدَ كِبَرِ سِنِّهِمَا، لَيْسَ لَهُمَا التَّبَرُّمُ مِنْ ذَلِكَ ـ فَعَلَى نَفْسِهَا جَنَتْ بَرَاقِشُ ـ إِذَا لَمْ يَتَخَلَّقَا بِأَخْلَاقِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَعَ الأَطْفَالِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ خِلَالِ هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ تَتَجَلَّى رُوحُ المُرَبِّي العَظِيمِ في تَعَامُلِهِ مَعَ الصِّبْيَانِ، وَتَرَفُّقِهِ بِهِمْ، وَحُنُوِّهِ عَلَيْهِمْ، ضَارِبًا المَثَلَ الأَعْلَى للآبَاءِ وَالأَجْدَادِ في كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، لِيَكُونُوا عَلَى خُلُقٍ رَضِيٍّ كَرِيمٍ مَعَ تِلْكَ الغَرْسَاتِ الغَضَّةِ، مَهْمَا كَانَ عَلَيْهِ الآباءُ وَالأَجْدَادُ مِنْ وَقَارٍ وَمَكَانَةٍ وَقَدْرٍ.

هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ شَأْنُ المُسْلِمِ مَعَ أَوْلَادِهِ، يُخَالِطُهُمْ، وَيَتَرَفَّقُ بِهِمْ، وَيَحْنُو عَلَيْهِمْ، وَيُمَازِحُهُمْ، وَيُدْخِلُ إلى قُلُوبِهِمُ السَّعَادَةَ وَالغِبْطَةَ مَا اسْتَطَاعَ إلى ذَلِكَ سَبِيلًا، وَمَا وَجَدَ مِنْ وَقْتِهِ فَرَاغًا وَسَعَةً، وَكَذَلِكَ مَعَ أَبْنَاءِ المُسْلِمِينَ، وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ.

هَذَا الظَّهْرُ الْمُبَارَكُ: غَدَا بِالرَّحْمَةِ مَرْكُوبَ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، كَمَا يَقُولُ سَيِّدُنَا جَابِرٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعَةٍ، وَعَلَى ظَهْرِهِ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، وَهُوَ يَقُولُ: «نِعْمَ الْجَمَلُ جَمَلُكُمَا، وَنِعْمَ الْعِدْلانِ أَنْتُمَا» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ.

أَرَأَيْنَا سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في جَلَالِهِ العَظِيمِ كَيْفَ يُعْطِي الأَوْلَادَ حَقَّهُمْ؟

رَوَى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَدُعِينَا إِلَى طَعَامٍ، فَإِذَا الْحُسَيْنُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَلْعَبُ فِي الطَّرِيقِ، فَأَسْرَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَمَامَ الْقَوْمِ، ثُمَّ بَسَطَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ حُسَيْنٌ يَمُرُّ مَرَّةً هَاهُنَا وَمَرَّةً هَاهُنَا، فَيُضاحِكُهُ حَتَّى أَخَذَهُ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ فِي ذَقْنِهِ، وَالْأُخْرَى بَيْنَ رَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ، ثُمَّ اعْتَنَقَهُ فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، أَحَبَّ اللهُ مَنْ أَحَبَّهُ، الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سِبْطَانِ مِنَ الْأَسْبَاطِ».

وَهَذَا لَيْسَ لِأَوْلَادِهِ فَقَطْ، بَلْ لِكُلِّ الأَوْلَادِ، رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَصُفُّ عَبْدَ اللهِ، وَعُبَيْدَ اللهِ، وَكُثَيَّرًا بَنِي الْعَبَّاسِ، ثُمَّ يَقُولُ: «مَنْ سَبَقَ إِلَيَّ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا».

قَالَ: فَيَسْتَبِقُونَ إِلَيْهِ فَيَقَعُونَ عَلَى ظَهْرِهِ وَصَدْرِهِ، فَيُقَبِّلُهُمْ وَيَلْتَزَمُهُمْ.

يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ، أَنَّ مِنْ طُرُقِ السَّعَادَةِ الأُسَرِيَّةِ إِيجَادَ جَوٍّ أُسَرِيٍّ تَسُودُهُ المَحَبَّةُ وَالأُلْفَةُ، بَلْ وَالمَرَحُ أَحْيَانًا، اليَوْمَ وَبِكُلِّ أَسَفٍ كَثِيرٌ مِنَ الأَوْلَادِ يَدْخُلُونَ بُيُوتَهُمْ وَقَدْ عَلَتْهُمْ مَوْجَةٌ مِنَ الكَآبَةِ وَالضِّيقِ، وَكَأَنَّهُمْ في سِجْنٍ، وَذَلِكَ لِجَفْوَةِ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ.

وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الأَطْفَالَ ذَوِي النُّفُوسِ الصَّافِيَةِ، أَحْوَجُ النَّاسِ إلى الرَّحْمَةِ بِهِمْ، وَالعَطْفِ عَلَيْهِمْ، فَهُمْ يُحِسُّونَ بِحُسْنِ المُعَامَلَةِ حَسَبَ مَدَارِكِهِمْ، وَيَهْتَمُّونَ بِمَنْ يُوَادُّهُمْ مُنْذُ نُعُومَةِ أَظْفَارِهِمْ، فَاللَّعِبُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الصِّغَارِ، وَهُوَ رَمْزٌ لِحَيَوَيَّتِهِمْ وَنَشَاطِهِمْ.

مِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُدَاعِبُ الأَطْفَالَ، وَيَرْأَفُ بِهِمْ، وَيُحْسِنُ مُلَاعَبَتَهُمْ، وَمِنْ ذَلِكَ مَوَاقِفُهُ مَعَ أَحْفَادِهِ، وَمَعَ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، أَبْصَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُ الْحَسَنَ فَقَالَ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ وَاحِدًا مِنْهُمْ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ».

فَالأَطْفَالُ هُمُ الأَطْفَالُ، اللَّهْوُ وَاللَّعِبُ مِنْ طَبِيعَتِهِمْ، وَالإِسْلَامُ يُعْطِي الطُّفُولَةَ حَقَّهَا، وَيُرَاعِي الفِطْرَةَ الإِنْسَانِيَّةَ فَلَا يَكْبِتُهَا.

في الخِتَامِ: يَحْسُنُ بِالمُرَبِّي أَنْ يُعَامِلَ الأَطْفَالَ خِلَالَ لَعِبِهِمْ بِالشُّرُوطِ الآتِيَةِ:

أَوَّلًا: عَدَمُ التَّدَخُّلِ في شَأْنِ الطِّفْلِ أَثْنَاءَ انْصِرَافِهِ إلى اللَّعِبِ، إِلَّا إِذَا اسْتَلْزَمَ نِظَامُ طَعَامِهِ أَو نَوْمِهِ أَو دِرَاسَتِهِ التَّدَخُّلَ، أَو تَعَرَّضَ الطِّفْلُ للخَطَرِ.

ثَانِيًا: مُشَارَكَةُ الطِّفْلِ بَيْنَ الحِينِ وَالآخَرِ في لَعِبِهِ تَعْلِيمًا لَهُ، وَتَفْرِيحًا.

ثَالِثًا: لَا يُعْطَى الطِّفْلُ لُعًبًا كَثِيرَةً دُفْعَةً وَاحِدَةً، حَتَّى لَا يَزْهَدَ فِيهَا أَو يَعْبَثَ بِهَا.

رَابِعًا: المُوَازَنَةُ بَيْنَ اللَّعِبِ الجَمَاعِيِّ وَالفَرْدِيِّ، لِإِبْعَادِ الطِّفْلِ عَنِ الانْطِوَاءِ، وَتَعْلِيمِهِ أُسْلُوبَ التَّعَامُلِ مَعَ الغَيْرِ، وَاحْتِمَالِ الأَذَى، وَالتَّعَرُّفِ عَلَى وِجْهَةِ النَّظَرِ المُخَالِفَةِ.

هَذَا الظَّهْرُ الْمُبَارَكُ: نَبَتَ فِيهِ خَاتَمُ التَّمَيُّزِ وَالاصْطِفَاءِ وَالنُّبُوَّةِ، رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: رَأَيْتُ خَاتَمًا فِي ظَهْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كَأَنَّهُ بَيْضَةُ حَمَامٍ.

وَفي رِوَايَةٍ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَجِعٌ؛ فَمَسَحَ رَأْسِي وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ، ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ زِرِّ الْحَجَلَةِ.

وَفي رِوَايَةٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَرْجِسَ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَكَلْتُ مَعَهُ خُبْزًا وَلَحْمًا، أَوْ قَالَ ثَرِيدًا، قَالَ فَقُلْتُ لَهُ: أَسْتَغْفَرَ لَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

قَالَ: نَعَمْ، وَلَكَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾.

قَالَ: ثُمَّ دُرْتُ خَلْفَهُ، فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، عِنْدَ نَاغِضِ كَتِفِهِ الْيُسْرَى، جُمْعًا (كَجُمْعِ الكَفِّ) عَلَيْهِ خِيلَانٌ (جَمْعُ خَالٍ وَهُوَ الشَّامَةُ في الجَسَدِ) كَأَمْثَالِ الثَّآلِيلِ (جَمْعُ ثُؤْلُولٍ وَهِيَ حُبَيْبَاتٌ تَعْلُو الجَسَدَ).

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ، وَخَرَجَ مَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي أَشْيَاخٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى الرَّاهِبِ (بَحِيرَا) هَبَطُوا فَحَلُّوا رِحَالَهُمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الرَّاهِبُ، وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ بِهِ فَلَا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ وَلَا يَلْتَفِتُ.

قَالَ: فَهُمْ يَحُلُّونَ رِحَالَهُمْ، فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُهُمُ الرَّاهِبُ (أَيْ: يَمْشِي بَيْنَهُمْ وَيَطْلُبُ في خِلَالِهِمْ شَخْصًا) حَتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: هَذَا سَيِّدُ العَالَمِينَ، هَذَا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ، يَبْعَثُهُ اللهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.

فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ: مَا عِلْمُكَ؟ (أَيْ: مَا سَبَبُ عِلْمِكَ بِذَلِكَ؟).

فَقَالَ الرَّاهِبُ: إِنَّكُمْ حِينَ أَشْرَفْتُمْ مِنَ العَقَبَةِ لَمْ يَبْقَ شَجَرٌ وَلَا حَجَرٌ إِلَّا خَرَّ سَاجِدَاً، وَلَا يَسْجُدَانِ إِلَّا لِنَبِيٍّ، وَإِنِّي أَعْرِفُهُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ أَسْفَلَ مِنْ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ، مِثْلَ التُّفَّاحَةِ.

ثُمَّ رَجَعَ فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا، فَلَمَّا أَتَاهُمْ بِهِ وَكَانَ هُوَ (أَيْ: النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ) فِي رِعْيَةِ الإِبِلِ.

قَالَ: أَرْسِلُوا إِلَيْهِ، فَأَقْبَلَ وَعَلَيْهِ غَمَامَةٌ تُظِلُّهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ القَوْمِ وَجَدَهُمْ قَدْ سَبَقُوهُ إِلَى فَيْءِ الشَّجَرَةِ، فَلَمَّا جَلَسَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَالَ فَيْءُ الشَّجَرَةِ عَلَيْهِ، فَقَالَ ـ أَي: الرَّاهِبُ ـ: انْظُرُوا إِلَى فَيْءِ الشَّجَرَةِ مَالَ عَلَيْهِ.

قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللهِ، أَيُّكُمْ وَلِيُّهُ؟ (أَي: قَرِيبُهُ).

قَالُوا: أَبُو طَالِبٍ، فَلَمْ يَزَلْ يُنَاشِدُهُ (أَي: يُنَاشِدُ أَبَا طَالِبٍ) حَتَّى رَدَّهُ أَبُو طَالِبٍ (أَي: أَعَادَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى مَكَّةَ خَوْفًا عَلَيْهِ مِنَ الرُّومِ أَنْ يَقْتُلُوهُ) وَبَعَثَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ بِلَالًا وَزَوَّدَهُ الرَّاهِبُ مِنَ الكَعْكِ وَالزَّيْتِ.

وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ ـ وَفِيهِ ـ قَالَ: ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِقُبَاءَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ، وَمَعَكَ أَصْحَابٌ لَكَ غُرَبَاءُ ذَوُو حَاجَةٍ، وَهَذَا شَيْءٌ كَانَ عِنْدِي لِلصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُكُمْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِكُمْ قَالَ: فَقَرَّبْتُهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: «كُلُوا».

وَأَمْسَكَ يَدَهُ فَلَمْ يَأْكُلْ، قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذِهِ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ عَنْهُ فَجَمَعْتُ شَيْئًا، وَتَحَوَّلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ جِئْتُهُ بِهِ، فَقُلْتُ: إِنِّي رَأَيْتُكَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أَكْرَمْتُكَ بِهَا، قَالَ: فَأَكَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مَعَهُ.

قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَاتَانِ اثْنَتَانِ.

قَالَ: ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ، قَالَ: وَقَدْ تَبِعَ جَنَازَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، عَلَيْهِ شَمْلَتَانِ لَهُ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَدَرْتُ أَنْظُرُ إِلَى ظَهْرِهِ، هَلْ أَرَى الْخَاتَمَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي؟ فَلَمَّا رَآنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ اسْتَدَبَرْتُهُ، عَرَفَ أَنِّي أَسْتَثْبِتُ فِي شَيْءٍ وُصِفَ لِي.

قَالَ: فَأَلْقَى رِدَاءَهُ عَنْ ظَهْرِهِ، فَنَظَرْتُ إِلَى الْخَاتَمِ فَعَرَفْتُهُ، فَانْكَبَبْتُ عَلَيْهِ أُقَبِّلُهُ وَأَبْكِي.

اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا بِرُؤْيَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

تاريخ الكلمة

**    **    **

الأربعاء: 18/ صفر /1444هـ، الموافق: 14/ أيلول / 2022م