887ـ خطبة الجمعة: اختياره صلى الله عليه وسلم من الأزل

887ـ خطبة الجمعة: اختياره صلى الله عليه وسلم من الأزل

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: في شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ يَتَجَدَّدُ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ حُبُّ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، الذي هُوَ أَصْلُ شَرَفِنَا وَمَصْدَرُ فَخْرِنَا وَعِزِّنَا في هَذَا العَالَمِ.

نَعَمْ، إِنَّ أُمَّةَ هَذَا السَّيِّدِ العَظِيمِ، وَالسَّنَدِ الرَّفِيعِ مَزَّقَتْ مُلْكَ كِـسْرَى، وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَرْقُدُ عَلَى الحَصِيرِ، نَعَمْ إِنَّ أُمَّةَ هَذَا السَّيِّدِ العَظِيمِ وَالسَّنَدِ الرَّفِيعِ نَامَتْ عَلَى أَسِرَّةِ المُلُوكِ، وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَبِيتُ اللَّيَالِيَ لَا يَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ.

اخْتَارَ اللهُ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ الأَزَلِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدِ اخْتَارَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ الأَزَلِ، وَسَبَقَتْ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ الأَزَلِ، وَأَرَادَتْ مَشِيئَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَكُونَ نَبِيُّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قِمَّةً في كُلِّ شَيْءٍ، كَيْ يَصْلُحَ لِحَمْلِ أَعْظَمِ رِسَالَةٍ وَأَطْهَرِهَا.

يَا عِبَادَ اللهِ: لَا نَجِدُ في تَارِيخِ الرِّسَالَاتِ رَسُولًا أُعِدَّ إِعْدَادًا طَوِيلًا كَمَا أُعِدَّ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِحَمْلِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ العَظِيمَةِ للثَّقَلَيْنِ، لِعَالَمِ الإِنْسِ وَلِعَالَمِ الجِنِّ إلى قِيَامِ السَّاعَةِ؛ لَقَدْ تَمَّ إِعْدَادُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ عَامًا لِدَعْوَةٍ اسْتَمَرَّتَ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ عَامًا؛ لَقَدْ تَمَّ إِعْدَادُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِعْدَادًا شَامِلًا جَمِيعَ نَوَاحِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لِيَكُونَ أَثَرُ دَعْوَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُمْتَدًّا إلى قِيَامِ السَّاعَةِ.

العِنَايَةُ الرُّوحِيَّةُ وَالقَلْبِيَّةُ:

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ أَبْرَزِ صُوَرِ العِنَايَةِ الإِلَهِيَّةِ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ العِنَايَةُ الرُّوحِيَّةُ وَالقَلْبِيَّةُ، وَقَدْ ضَمِنَهَا لَهُ تَبَارَكَ وتعالى مُنْذُ اخْتِيَارِهِ مِنَ الأَزَلِ رَسُولًا للعَالَمِينَ، رَوَى الطَّبَرَانِيُّ في مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُنْتُ أَوَّلَ النَّبِيِّينَ فِي الْخَلْقِ وَآخِرَهُمْ فِي الْبَعْثِ».

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ، مَتَى وَجَبَتْ لَكَ النُّبُوَّةُ؟

قَالَ: «وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالجَسَدِ».

يَا عِبَادَ اللهِ: الرُّوحُ وَالقَلْبُ إِنْ لَمْ يَكُونَا مُهَيَّئَيْنِ لِتَلَقِّي الأَنْوَارِ الإِلَهِيَّةِ فَإِنَّهُ يَعْجَزُ عَنْ هِدَايَةِ النَّاسِ، وَمَا هُيِّئَتْ رُوحٌ إِنْسَانِيَّةٌ مِثْلَمَا هُيِّئَتْ رُوحُ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَمَا هُيِّئَ قَلْبٌ إِنْسَانِيٌّ مِثْلَمَا هُيِّئَ قَلْبُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى قَدْرِ حَجْمِ المَسْؤُولِيَّةِ يَكُونُ الإِعْدَادُ.

نَعَمْ، لَقَدْ تَعَلَّقَتْ رُوحُهُ الشَّرِيفَةُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاتَّسَعَتْ لِأَنْوَارٍ مِنَ اللهِ تعالى لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَلْهَمَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ التَّدَرُّبَ الرُّوحِيَّ خِلَالَ التَّحَنُّثِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ في غَارِ حِرَاءٍ، وَأَخَذَتْ تَزْدَادُ اضْطِرَادًا بِإِلْهَامٍ مِنَ اللهِ تعالى مَعَ اقْتِرَابِ البِعْثَةِ الشَّرِيفَةِ.

وَأَمَّا الإِعْدَادُ القَلْبِيُّ فَحَدِّثْ عَنْهُ وَلَا حَرَجَ، فَلَمْ يَكُنْ قَلْبُهُ الشَّرِيفُ مُتَوَجِّهًا لِغَيْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِاتِّسَاعِ أَنْوَارٍ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَلَيْسَ هُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القَائِلُ: «الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ، وَبَعْضُهَا أَوْعَى مِنْ بَعْضٍ»؟ رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ غَدَا قَلْبُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَطْهَرَ القُلُوبِ عَلَى الإِطْلَاقِ، وَأَوْسَعَ القُلُوبِ عَلَى الإِطْلَاقِ، وَأَرْحَمَ القُلُوبِ عَلَى الإِطْلَاقِ، وَأَسْلَمَ القُلُوبِ عَلَى الإِطْلَاقِ، وَهَذَا مَا أَكَّدَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ لِسَيِّدِنَا أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «يَا بُنَيَّ، إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ لَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ».

ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا بُنَيَّ وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الجَنَّةِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ خِلَالِ هَذَا نَتَعَلَّمُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ دَاعِيَةٍ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ الإِعْدَادُ الرُّوحِيُّ وَالقَلْبِيُّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَمَلَهُ في الدَّعْوَةِ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مَهَمَّةُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَمَجْلِسَهُ لِخِطَابِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ مَجْلِسُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَلَا بُدَّ لِهَذَا الدَّاعِي مِنَ الإِعْدَادِ الرُّوحِيِّ مِنْ حَيْثُ الصِّلَةُ بِاللهِ تعالى، وَكَثْرَةُ ذِكْرِ اللهِ تعالى، وَمِنْ حَيْثُ سَلَامَةُ القَلْبِ، وَهَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ، إِلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ تعالى وَسَارَ سَيْرَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ خِلَالِ هَذَا نَرَى الوُرَّاثَ الحَقِيقِيِّينَ هُمُ الذينَ يَقْدِرُونَ عَلَى سَاعَاتٍ طَوِيلَةٍ مِنَ العِبَادَةِ وَالذِّكْرِ، وَيَقْدِرُونَ عَلَى طَهَارَةِ قُلُوبِهِمْ، حَتَّى يَكُونَ لَهُمُ الأَثَرُ في الأُمَّةِ.

اللَّهُمَّ اجْعَلْ سِيرَتَهُ العَطِرَةَ حُجَّةً لَنَا لَا عَلَيْنَا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 7/ ربيع الأول /1445هـ، الموافق: 22/ أيلول / 2023م