57ـ لواء الحمد

57ـ لواء الحمد

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ سَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ في كِتَابِهِ (الإِيمَانِ بِعَوَالِمِ الآخِرَةِ وَمَوَاقِفِهَا):

لِوَاءُ الحَمْدِ:

لَقَدْ ثَبَتَ بِالأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّ لِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِوَاءً عَالِيًا عَلَى جَمِيعِ أَلْوِيَةِ الشَّرَفِ وَالكَرَامَةِ، وَاسِعًا كُلَّ السَّعَةِ، يَأْوِي إِلَيْهِ وَيَدْخُلُ تَحْتَهُ جَمِيعُ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، وَأَتْبَاعُهُمْ مَعَهُمْ صَلَوَاتُ اللهُ تعالى عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.

وَيُسَمَّى: لِوَاءَ الحَمْدِ، وَهُوَ بِيَدِ جَامِعِ أَنْوَاعِ السِّيَادَةِ وَالمَحَبَّةِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَه وَغَيْرُهُمَا، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَبِيَدِي لِوَاءُ الحَمْدِ وَلَا فَخْرَ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ وَلَا فَخْرَ» الحَدِيثَ.

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُمَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَلَسَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُونَهُ.

قَالَ: فَخَرَجَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُمْ سَمِعَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ فَسَمِعَ حَدِيثَهُمْ.

فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَجَبًا إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ اتَّخَذَ مِنْ خَلْقِهِ خَلِيلًا، اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا.

وَقَالَ آخَرُ: مَاذَا بِأَعْجَبَ مِنْ كَلَامِ مُوسَى كَلَّمَهُ اللهُ تَكْلِيمًا.

وَقَالَ آخَرُ: فَعِيسَى كَلِمَةُ اللهِ وَرُوحُهُ.

وَقَالَ آخَرُ: آدَمُ اصْطَفَاهُ اللهُ تعالى.

فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ، وَقَالَ: «سَمِعْتُ كَلَامَكُمْ وَعَجَبَكُمْ، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَمُوسَى نَجِيُّ اللهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَعِيسَى رُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَآدَمُ اصْطَفَاهُ اللهُ وَهُوَ كَذَلِكَ».

قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا وَأَنَا حَبِيبُ اللهِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الحَمْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُحَرِّكُ حِلَقَ الجَنَّةِ فَيَفْتَحُ اللهُ لِي فَيُدْخِلُنِيهَا وَمَعِي فُقَرَاءُ المُؤْمِنِينَ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَكْرَمُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ وَلَا فَخْرَ».

وَمَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في ذَلِكَ: «وَلَا فَخْرَ». أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فَخْرًا وَكِبْرًا، وإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ تَحَدُّثًا بِنِعْمَةِ اللهِ تعالى وَشُكْرًا لَهُ، وَامْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ تعالى حَيْثُ قَالَ لَهُ: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾.

وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللهِ، وَعِيسَى كَلِمَةُ اللهِ وَرُوحُهُ، وَمُوسَى كَلَّمَهُ اللهُ تَكْلِيمًا، فَمَاذَا أُعْطِيتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: «وَلَدُ آدَمَ كُلُّهُمْ تَحْتَ رَايَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تُفْتَحُ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ» صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

وَرَوَى التِّرِمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُمْ، عَن أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ خُرُوجًا إِذَا بُعِثُوا، وَأَنَا قَائِدُهُمْ إِذَا وَفَدُوا، وَأَنَا خَطِيبُهُمْ إِذَا أَنْصَتُوا، وَأَنَا شَافِعُهُمْ إِذَا حُبِسُوا، وَأَنَا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا أَيِسُوا، الْكَرَامَةُ وَالْمَفَاتِيحُ يَوْمَئِذٍ بِيَدِي، وَلِوَاءُ الحَمْدِ بِيَدِي، وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى رَبِّي وَلَا فَخْرَ، يَطُوفُ عَلَيَّ أَلْفُ خَادِمٍ كَأَنَّهُمُ اللُّؤْلُؤُ المَكْنُونُ» هَذَا لَفْظُ الدَّارِمِيِّ.

قَالَ الحَافِظُ الزُّرْقَانِيُّ: وَأُضِيفَ اللِّوَاءُ إلى الحَمْدِ الذي هُوَ الثَّنَاءُ عَلَى اللهِ تعالى بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، لِأَنَّهُ هُوَ مُنْصِبُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في المَوْقِفِ وَهُوَ المَقَامُ المَحْمُودُ المُخْتَصُّ بِهِ. اهـ.

قَالَ: وَالعُرْفُ جَارٍ بِأَنَّ اللِّوَاءَ يَكُونُ مَعَ كَبِيرِ القَوْمِ لِيُعْرَفَ مَكَانُهُ، إِذْ مَوْضُوعُهُ أَصَالَةً شُهرَةُ الرَّئِيسِ. اهـ.

وَقَدْ تَكَلَّمَ الشَّيْخُ الأَكْبَرُ مُحْيِي الدِّينِ نَفَعَنَا اللهُ تعالى بِهِ وَبِأَهْلِ اللهِ أَجْمَعِينَ، حَوْلَ لِوَاءِ الحَمْدِ، وَبَيَّنَ وَجْهَ تَسْمِيَتِهِ بِلِوَاءِ الحَمْدِ: أَنَّهُ الْتَوَتْ ـ أَيْ: اجْتَمَعَتْ فِيهِ المَحَامِيدُ التي يُحْمَدُ بِهَا رَبُّ العَالَمِينَ، فَهُوَ لِوَاءٌ جَامِعٌ لِجَمِيعِ المَحَامِدِ الإِلَهِيَّةِ، فَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ حَمْدٌ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ مِنْهُ كُلُّ حَامِدٍ حَمْدَهُ لِيَحْمَدَ بِهِ رَبَّ العَالَمِينَ سُبْحَانَهُ وتعالى.

وَإِنَّ الحَمْدَ للهِ تعالى لَا يَكُونُ إِلَّا بِالأَسْمَاءِ الإِلَهِيَّةِ، فَإِنَّهَا بِهَا يُثْنَى عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَبِهَا يُحْمَدُ، وَإِنَّ جَمِيعَ تِلْكَ الأَسْمَاءِ الإِلَهِيَّةِ التي بِهَا يَحْمَدُهُ الحَامِدُونَ، وَيُثْنُونَ بِهَا عَلَى رَبِّهِمْ، جَمَعَهَا اللهُ تعالى في لِوَاءِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَإِلَى ظِلِّ لِوَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَأْوُونَ، وَعَنْهُ يَأْخُذُونَ صِيَغَ حَمْدِهِمْ، وَلِذَلِكَ عَمَّ ظِلُّ لِوَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ جَمِيعَ الحَامِدِينَ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي».

فَالأَنْبِيَاءُ وَأَتْبَاعُهُمْ كُلُّهُمْ في ظِلِّ لِوَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، الذي اجْتَمَعَتْ فِيهِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ المَحَامِدِ، وَمِنْهُ يَتَلَقَّى كُلُّ حَامِدٍ.

وَإِنَّ أَحْمَدَ الحَامِدِينَ لِرَبِّ العَالَمِينَ سَيِّدُنَا أَحْمَدُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، الذي فَتَحَ اللهُ وَيَفْتَحُ عَلَيْهِ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ غَيْرِهِ، كَمَا جَاءَ في أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ المُتَقَدِّمَةِ، حَيْثُ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ يَفْتَحُ اللهُ عَلَيَّ (أَيْ: يَوْمَ القِيَامَةِ، حِينَ يُقِيمُهُ اللهُ تعالى في المَقَامِ المَحْمُودِ) مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا، لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي» رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ.

وَقَالَ: «فَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَا أَعْلَمُهَا الآنَ، يُلْهِمُنِيهَا اللهُ تعالى».

حَشَرَنَا اللهُ تعالى في جُمْلَةِ رُفَقَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَجَمَعَنَا تَحْتَ لِوَاءِ حَمْدِهِ، وَرَايَةِ مَجْدِهِ، وَنَفَحَنَا بِنَفَحَاتِهِ، وَأَفَاضَ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

اللَّهُمَّ احْشُرْنَا تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِكَ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّكَ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 13/ ربيع الأول /1444هـ، الموافق: 28/ أيلول / 2023م