58ـ عالم الحوض

58ـ عالم الحوض

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ سَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ في كِتَابِهِ (الإِيمَانِ بِعَوَالِمِ الآخِرَةِ وَمَوَاقِفِهَا):

عَالَمُ الحَوْضِ:

قَالَ اللهُ تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾.

في هَذِهِ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ يَذْكُرُ اللهُ تعالى فَضْلَهُ العَظِيمَ عَلَى رَسُولِهِ الكَرِيمِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَيُعْلِنُ لَهُ هَذَا العَطَاءَ الكَبِيرَ الذي خَصَّهُ بِهِ.

فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ إِنَّا بِعَظَمَةِ صِفَاتِنَا وَمَجْدِ أَسْمَائِنَا الفَيَّاضَةِ بِالخَيْرَاتِ وَالبَرَكَاتِ ﴿أَعْطَيْنَاكَ﴾ عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ بِكَ ﴿الكَوْثَرَ﴾ أَيْ: الخَيْرَ الكَثِيرَ، العَامَّ الطَّامَّ لِعَوَالِمِ الدُّنْيَا وَالبَرَازِخِ وَالآخِرَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ الخَيْرِ الكَثِيرِ الحَوْضُ في المَوْقِفِ، وَالكَوْثَرُ في الجَنَّةِ.

﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ شُكْرًا لِرَبِّكَ عَلَى هَذَا العَطَاءِ الكَثِيرِ، وَالخَيْرِ الوَفِيرِ.

﴿إِنَّ شَانِئَكَ﴾ أَيْ: مُبْغِضَكَ يَا رَسُولَ اللهِ ﴿هُوَ الْأَبْتَرُ﴾ أَيْ: الأَقْطَعُ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَالمَعْنَى: لَقَدْ أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ الجَامِعَ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَالفَائِضَ بِكُلِّ فَضْلٍ وَبِرٍّ، فَمَنْ أَحَبَّكَ وَاتَّبَعَكَ يَا رَسُولَ اللهِ نَهَلَ مِنْ ذَلِكَ الخَيْرِ، وَنَالَ حَظَّهُ الوَافِرَ مِنْ ذَلِكَ الفَضْلِ العَظِيمِ، وَالكَرَمِ وَالبِرِّ عَلَى حَسَبِ حُبِّهِ لَكَ، وَاتِّبَاعِهِ لَكَ، وَمَنْ لَمْ يُحِبَّكَ يَا رَسُولَ اللهِ فَلَا نَصِيبَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ هُوَ الأَقْطَعُ المَحْرُومُ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ وَبِرٍّ وَسَعَادَةٍ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، لِأَنَّ اللهَ تعالى جَمَعَ لَكَ أَنْوَاعَ الخَيْرِ يَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في قَوْلِهِ: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾.

فَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَجْمَعُ الخَيْرِ كُلِّهِ، وَالفَضْلِ وَالبِرِّ وَالفَلَاحِ وَالنَّجَاحِ، فَلَا يُبْتَغَى الخَيْرُ، وَلَا يُنَالُ البِرُّ إِلَّا مِنْ مَعْدِنِهِ وَمَعِينِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ بِحُبِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَاتِّبَاعِهِ، وَلَقَدْ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللهُ يُعْطِي» رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: الكَوْثَرُ: الخَيْرُ الكَثِيرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ.

قَالَ أَبُو بِشْرٍ: قُلْتُ لِسَعِيدٍ: إِنَّ أُنَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهَرٌ فِي الجَنَّةِ؟

فَقَالَ سَعِيدٌ: النَّهَرُ الَّذِي فِي الجَنَّةِ مِنَ الخَيْرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الكَوْثَرُ هُوَ الخَيْرُ الكَثِيرُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.

فَالكَوْثَرُ هُوَ عَلَى وَزْنِ فَوْعَلٍ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى المُبَالَغَةِ وَالكَثْرَةِ.

وَرَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً (أَيْ: اعْتَرَتْهُ حَالَةُ الوَحْيِ) ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا.

فَقُلْنَا: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا (الآنَ) سُورَةٌ» فَقَرَأ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾.

ثُمَّ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟».

فَقُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

قَالَ: «فَإِنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ، فَيُخْتَلَجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ، فَأَقُولُ: رَبِّ، إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي فَيَقُولُ: مَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَتْ بَعْدَكَ».

فَذَلِكَ النَّهْرُ العَظِيمُ الذي هُوَ في الجَنَّةِ يُسَمَّى كَوْثَرًا، وَيَمْتَدُّ مِنْهُ إلى المَوْقِفِ فَيُسَمَّى الحَوْضَ، تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّةُ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

سَعَةُ حَوْضِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَكَثْرَةُ آنِيَتِهِ وَحَلَاوَةُ مَائِهِ وَبَيَاضُ لَوْنِهِ:

رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، وَزَوَايَاهُ سَوَاءٌ، وَمَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ الْوَرِقِ (أَيْ: الفِضَّةِ) وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَكِيزَانُهُ (أَيْ: كُؤُوسُهُ) كَنُجُومِ السَّمَاءِ، فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَا يَظْمَأُ بَعْدَهُ أَبَدًا».

وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا آنِيَةُ الْحَوْضِ؟

قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ، بِيَدِهِ لَآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ وَكَوَاكِبِهَا، أَلَا فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ الْمُصْحِيَةِ، آنِيَةُ الْجَنَّةِ مَنْ شَرِبَ مِنْهَا لَمْ يَظْمَأْ آخِرَ مَا عَلَيْهِ، يَشْخَبُ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ، عَرْضُهُ مِثْلُ طُولِهِ، مَا بَيْنَ عَمَّانَ إِلَى أَيْلَةَ، مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ».

وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَدْرُ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ وَصَنْعَاءَ مِنَ الْيَمَنِ، وَإِنَّ فِيهِ مِنَ الْأَبَارِيقِ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ».

وَفي الصَّحِيحَيْنِ وَسُنَنِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا بَيْنَ نَاحِيَتَيْ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَالْمَدِينَةِ».

وَفي رِوَايَةٍ: «مِثْلَ مَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَعَمَّانَ».

وَفي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «تُرَى فِيهِ أَبَارِيقُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ».

زَادَ في رِوَايَةٍ: «أَوْ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ».

وَفي رِوَايَةٍ: «إِنَّ قَدْرَ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ وَصَنْعَاءَ مِنَ اليَمَنِ، وَإِنَّ فِيهِ مِنَ الأَبَارِيقِ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ».

وَاخْتِلَافُ هَذِهِ المَسَافَاتِ التي ضَرَبَهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَمْثِلَةً لِعَرْضِ حَوْضِهِ الشَّرِيفِ، هَذَا الاخْتِلَافُ جَاءَ لِإِعْلَامِ المُخَاطَبِينَ بِسَعَةِ الحَوْضِ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُ مَا بَيْنَ أَيْلَةَ وَصَنْعَاءَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُ مَسَافَاتٍ أُخْرَى غَيْرَ تِلْكَ، فَضَرَبَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَمْثِلَةً لِسَعَةِ الحَوْضِ كَمَا جَاءَ في بَقِيَّةِ رِوَايَاتِ أَحَادِيثِ الحَوْضِ، وَالقَلِيلُ مِنْ هَذِهِ المَسَافَاتِ دَاخِلٌ تَحْتَ الكَثِيرِ، وَالكَثِيرُ بَاقٍ عَلَى ظَاهِرِهِ، كَمَا قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وَلَيْسَ في القَلِيلِ مِنْ هَذِهِ مَنْعُ الكَثِيرِ، وَالكَثِيرُ ثَابِتٌ عَلَى ظَاهِرِ الحَدِيثِ، وَلَا مُعَارَضَةَ. والله تعالى أعلم. اهـ.

قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وَهَذَا الاخْتِلَافُ في قَدْرِ عَرْضِ الحَوْضِ لَيْسَ مُوجِبًا للاضْطِرَابِ ـ أَيْ: في أَحَادِيثِ الحَوْضِ ـ فَإِنَّهُ ـ أَيْ: الاخْتِلَافُ ـ لَمْ يَأْتِ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، بَلْ فِي أَحَادِيثَ مُخْتَلِفَةِ الرُّوَاةِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، سَمِعُوهَا فِي مَوَاطِنَ مُخْتَلِفَةٍ، ضَرَبَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي كُلٍّ مِنْهَا مَثَلًا لِبُعْدِ أَقْطَارِ الْحَوْضِ وَسَعَتِهِ، وَقَرَّبَ ذَلِكَ مِنَ الإِفْهَامِ لِبُعْدِ مَا بَيْنَ الْبِلَادِ المَذْكُورَةِ، لَا عَلَى التَّقْدِيرِ الْمَوْضُوعِ لِلتَّحْدِيدِ، بَلْ لِلْإِعْلَامِ بِعِظَمِ بُعْدِ الْمَسَافَةِ، فَبِهَذَا تَجْتَمِعُ الرِّوَايَاتُ. اهـ.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 1/ جمادى الآخرة /1444هـ، الموافق: 14/ كانون الأول/ 2023م