895ـ خطبة الجمعة: حجاب المرأة عنوان عفتها

895ـ خطبة الجمعة: حجاب المرأة عنوان عفتها

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ حِجَابَ المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ ـ أَعْنِي سَتْرَ وَجْهِهَا مَعَ سَائِرِ بَدَنِهَا ـ وِسَامُ عِزَّتِهَا، وَعُنْوَانُ عِفَّتِهَا، وَمَظْهَرٌ لِصَلَاحِهَا، قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾.

لَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ حِصْنًا حَصِينًا للمَرْأَةِ مِنَ الأَعْيُنِ الخَائِنَةِ، وَالقُلُوبِ المَرِيضَةِ؛ وَالْتِزَامُ المَرْأَةِ بِالحِجَابِ عِبَادَةٌ تَتَقَرَّبُ بِهِ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ القَائِلِ: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾.

وَمَنْ قَالَ إِنَّ الحِجَابَ وَسَتْرَ الوَجْهِ عَادَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ تَوَارَثَهَا المُجْتَمَعُ، فَقَدْ أَعْظَمَ الفِرْيَةَ عَلَى اللهِ تعالى، وَعَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

حِجَابُ المَرْأَةِ عُنْوَانُ عِفَّتِهَا:

يَا عِبَادَ اللهِ: حِجَابُ المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ عُنْوَانُ عِفَّتِهَا، فَلَا تَتَسَابَقُ النَّظَرَاتُ إِلَيْهَا، وَلَا تُوَاجِهُ أَذَى الفُسَّاقِ، لِأَنَّهَا حَفِظَتْ أَوَامِرَ اللهِ تعالى فَحَفِظَهَا اللهُ؛ وَانْظُرُوا إلى تَوْجِيهِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ للنِّسَاءِ العَجَائِزِ اللَّوَاتِي لَمْ يَبْقَ فِيهِنَّ مَوْضِعُ فِتْنَةٍ في كَشْفِ الوَجْهِ وَالكَفَّيْنِ، فَقَدْ قَالَ تعالى: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾. فَإِنْ كَانَ الحِجَابُ عِفَّةً للكَبِيرَاتِ في السِّنِّ اللَّوَاتِي لَا مَطْمَعَ فِيهِنَّ، فَكَيْفَ بِالشَّابَّاتِ؟

يَا عِبَادَ اللهِ: تَدَبَّرُوا جَيِّدًا قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾. مَاذَا نَفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ؟ الذي يُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أَنَّ خِطَابَ المَرْأَةِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ فِيهِ طَهَارَةٌ لِقُلُوبِ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ، لِأَنَّ العَيْنَ إِذَا لَمْ تَرَ لَمْ تَشْتَهِ النَّفْسُ، أَمَّا إِذَا رَأَتِ العَيْنُ فَقَدْ تَشْتَهِي النَّفْسُ وَقَدْ لَا تَشْتَهِي.

يَا عِبَادَ اللهِ: حِجَابُ المَرْأَةِ يَتَنَاسَبُ مَعَ غَيْرَةِ الرَّجُلِ التي جُبِلَ عَلَيْهَا الرَّجُلُ السَّوِيُّ الذي يَأْنَفُ أَنْ تَمْتَدَّ النَّظَرَاتُ الخَائِنَةُ إلى أَهْلِهِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾. فِيهِ أَمْرٌ مِنَ اللهِ تعالى لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْمُرَ أَزْوَاجَهُ وَبَنَاتِهِ وَنِسَاءَ المُؤْمِنِينَ بِإِدْنَاءِ الجِلْبَابِ، وَالذي جُسِّدَ وَاضِحًا جَلِيًّا مِنْ خِلَالِ نِسَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ.

أَوَّلًا: في قِصَّةِ صَفْوَانَ بْنِ المُعَطِّلِ، قَالَتِ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا:  فَأَتَانِي فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي، وَقَدْ كَانَ يَرَانِي قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ الْحِجَابُ عَلَيَّ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي، فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي، وَوَاللهِ مَا يُكَلِّمُنِي كَلِمَةً وَلَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ، حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، فَوَطِئَ عَلَى يَدِهَا فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِيَ الرَّاحِلَةَ، حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ. رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ.

ثَانِيًا: رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُحْرِمَاتٌ، فَإِذَا حَاذَوْا بِنَا سَدَلَتْ إِحْدَانَا جِلْبَابَهَا مِنْ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا فَإِذَا جَاوَزُونَا كَشَفْنَاهُ.

لِأَنَّ إِحْرَامَ المَرْأَةِ في الحَجِّ أَو العُمْرَةِ، هُوَ كَشْفُ وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا، للحَدِيثِ الذي رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَاذَا تَأْمُرُنَا أَنْ نَلْبَسَ مِنَ الثِّيَابِ فِي الإِحْرَامِ؟

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَلْبَسُوا القَمِيصَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا العَمَائِمَ، وَلَا البَرَانِسَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ لَيْسَتْ لَهُ نَعْلَانِ، فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْ أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ، وَلَا الوَرْسُ، وَلَا تَنْتَقِبِ المَرْأَةُ المُحْرِمَةُ، وَلَا تَلْبَسِ القُفَّازَيْنِ».

ثَالِثًا: رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: لَقَدْ كَانَ نِسَاءٌ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ يَشْهَدْنَ الْفَجْرَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُتَلَفِّعَاتٍ (مُلْتَحِفَاتٍ، أَيْ: مُغَطِّيَاتٍ رُؤُوسَهُنَّ وَأَجْسَادَهُنَّ) بِمُرُوطِهِنَّ  (جَمْعُ مُرْطٍ وَهُوَ ثَوْبٌ مِنْ خَزٍّ أَو صُوفٍ أَو غَيْرِهِ، وَقِيلَ هُوَ المِلْحَفَةُ) ثُمَّ يَنْقَلِبْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ، وَمَا يُعْرَفْنَ مِنْ تَغْلِيسِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالصَّلَاةِ (أَيْ: مِنْ أَجْلِ إِقَامَتِهَا في غَلَسٍ، وَهُوَ ظُلْمَةُ آخِرِ اللَّيْلِ بَعْدَ طُلُوعِ الفَجْرِ).

رَابِعًا: تَدَبَّرُوا هَذَا الحَدِيثَ جَيِّدًا، رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ».

فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَكَيْفَ يَصْنَعْنَ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ؟

قَالَ: «يُرْخِينَ شِبْرًا».

فَقَالَتْ: إِذًا تَنْكَشِفُ أَقْدَامُهُنَّ.

قَالَ: «فَيُرْخِينَهُ ذِرَاعًا، لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ».

فَإِذَا كَانَتِ المَرْأَةُ المُسْلِمَةُ حَرِيصَةً عَلَى سَتْرِ قَدَمِهَا، فَهَلْ تَتَسَاهَلُ بِكَشْفِ وَجْهِهَا؟ وَأَيْنَ تَكْمُنُ الفِتْنَةُ، أَفِي الوَجْهِ أَمْ في القَدَمِ؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: عِنْدَمَا أَدْرَكَ اليَهُودُ وَأَذْنَابُهُمْ أَنَّ المَرْأَةَ هِيَ حِصْنٌ عَظِيمٌ وَمُهِمٌّ في الأُمَّةِ الإِسْلَامِيَّةِ؛ وَأَنَّ سِرَّ قُوَّةِ المُجْتَمَعِ الإِسْلَامِيِّ بِصَلَاحِ المَرْأَةِ، تَوَجَّهُوا لِهَذَا الحِصْنِ لِتَحْطِيمِهِ، كَمَا قَالَ أَحَدُ كِبَارِهِمْ: كَأْسٌ وَغَانِيَةٌ تَفْعَلَانِ في تَحْطِيمِ الأُمَّةِ المُحَمَّدِيَّةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَلْفُ مِدْفَعٍ؛ فَأَغْرَقُوهُمْ في حُبِّ المَادَّةِ وَالشَّهَوَاتِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ تَمَّ نَزْعُ حِجَابِ المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ إِثْرَ مُخَطَّطٍ مُحْكَمٍ وَمَدْرُوسٍ، وَالأُمَّةُ في سُبَاتٍ عَمِيقٍ، حَتَّى تَحَقَّقَ في كَثِيرٍ مِنْ نِسَاءِ المُسْلِمِينَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا، قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُؤُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 9/ جمادى الآخرة /1445هـ، الموافق: 22/ كانون الأول / 2023م