36ـ صلاتها مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم

36ـ صلاتها مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم

 

صَلَاتُهَا مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

كَانَتِ السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَقْرَبَ مَا تَكُونُ إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ تُتَابِعُهُ، وَتَقْتَدِي بِهِ، وَتَسْمَعُ مِنْهُ وَتَحْفَظُ لَهُ، وَتَسْعَى إلى حِفْظِهِ وَرِعَايَتِهِ، وَكَانَ كُلَّمَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ بَعْدَ المَرَّةِ الأُولَى يَعُودُ إِلَيْهَا وَيُخْبِرُهَا أَو يُحَدِّثُهَا، وَلِهَذَا فَقَدْ كَانَتْ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَوَّلَ مَنْ صَلَّى مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَحِينَ فُرِضَتِ الصَّلَاةُ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ، وَفَجَّرَ لَهُ عَيْنًا في جَانِبِ الوَادِي، فَتَوَضَّأَ جِبْرِيلُ وَالرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيُعَلِّمُهُ جِبْرِيلُ كَيْفِيَّةَ الوُضُوءِ وَالطُّهُورِ للصَّلَاةِ، وَقَامَ جِبْرِيلُ فَصَلَّى بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَالرَّسُولُ يَتَتَبَّعُهُ في صَلَاتِهِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ ذَهَبَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى سَيِّدَتِنَا خَدِيجَةَ وَعَلَّمَهَا كَيْفَ تَتَوَضَّأُ بِنَفْسِ الطَّرِيقَةِ التي تَعَلَّمَهَا مِنْ جِبْرِيلَ ثُمَّ عَلَّمَهَا كَيْفَ تُصَلِّي، وَصَلَّى بِهَا، فَكَانَتْ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا المَأْمُومَةَ الأُولَى خَلْفَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

فِقْهُ السَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا:

إِنَّ مَنْ يَنْظُرُ في حَيَاةِ السَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَفي مَاضِيهَا التَّلِيدِ قَبْلَ زَوَاجِهَا مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ في طَرِيقَةِ اخْتِيَارِهَا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَحِرْصِهَا عَلَى الارْتِبَاطِ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ في حَيَاتِهَا يُحِسُّ بِرَجَاحَةِ عَقْلِ هَذِهِ السَّيِّدَةِ وَنُبْلِ أَصْلِهَا، وَكَرَامَةِ مَحْتِدِهَا، وَعُمْقِ فِكْرِهَا وَحَصَافَتِهَا، وَحُسْنِ تدْبِيرِهَا وَتَفْكِيرِهَا وَحِرْصِهَا عَلَى الخَيْرِ، وَحُبِّهَا وَتَقْدِيرِهَا وَاحْتِرَامِهَا لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلَعَلَّ جَوَابَهَا الرَّائِعَ بِرَدِّ السَّلَامِ عَلَى اللهِ تعالى وَجِبْرِيلَ عَلَيْهِ هُوَ آكَدُ دَلِيلٍ عَلَى هَذَا.

وَلِهَذَا كَانَتْ بَعْدَ زَوَاجِهَا مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَوْنًا لَهُ وَسَنَدًا لَيْسَ بِمَالِهَا وَجَاهِهَا فَقَطْ، وَلَكِنْ بِكُلِّ مَا أُوتِيَتْ مِنْ قُدُرَاتٍ، وَقَدْ أَحَاطَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِحُبٍّ كَبِيرٍ وَتَقْدِيرٍ عَظِيمٍ، وَكَانَتْ تَرْعَاهُ وَتَخْشَى عَلَيْهِ، وَتَتَّبِعُ مَسِيرَتَهُ، وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّهَا حُبًّا عَظِيمًا وَيَأْنَسُ لِمُشَاوَرَتِهَا وَيَحْرِصُ عَلَى عَرْضِ الأُمُورِ عَلَيْهَا وَالاسْتِئْنَاسِ بِرَأْيِهَا، وَكَانَتْ إِذَا عَرَضَ عَلَيْهَا الأَمْرَ تُفَكِّرُ فِيهِ بِجِدِّيَّةٍ وَعُمْقٍ وَنَظَرَاتٍ ثَاقِبَةٍ، وَلِهَذَا فَإِذَا مَا تَتَبَّعْنَا بَعْضَ الحَوَادِثِ التي عُرِضَتْ عَلَيْهَا وَأَبْدَتْ فِيهَا رَأْيًا أَو أَشَارَتْ بِهِ نَجِدُ في ذَلِكَ فِقْهًا، وَعُمْقًا، وَفِكْرًا، وَحَصَافَةَ رَأْيٍ.

وَدَعُونَا نَسْتَعْرِضْ بَعْضًا مِنْ نَمَاذِجِ هَذَا الفِقْهِ وَالفَهْمِ اللَّذَيْنِ تَمَيَّزَتْ بِهِمَا هَذِهِ السَّيِّدَةُ الكَرِيمَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا.

أَوَّلًا: لَقَدْ كَانَتْ حَصِيفَةً وَاعِيَةً، فَمَا إِنْ سَمِعَتْ عَنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى اقْتَرَبَتْ مِنْهُ وَتَتَبَّعَتْ سِيرَتَهُ وَحَرَصَتْ عَلَى أَنْ تَرْبِطَهَا بِهِ عَلَاقَةُ عَمَلٍ، وَهَذَا مِنْ فَهْمِ هَذِهِ السَّيِّدَةِ وَعُمْقِ تَفْكِيرِهَا.

ثَانِيًا: لَقَدْ أَجْمَعَ كُتَّابُ السِّيرَةِ وَالمُؤَرِّخُونَ عَلَى أَنَّهَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِرِسَالَةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَكُنْ إِيمَانُهَا عَاطِفَةً عَابِرَةً، وَإِنَّمَا عَنْ بَصِيرَةٍ وَيَقِينٍ وَتَصْدِيقٍ وَتَمْحِيصٍ أَدَّى بِهَا إلى ذَلِكَ الإِيمَانِ الكَبِيرِ.

وَهُوَ مَا تَجَلَّى خِلَالَ مَوَاقِفِهَا تُجَاهَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حِينَ ذَهَبَتْ بِهِ إلى ابْنِ عَمِّهَا، وَحِينَ جَاءَهَا وَدَثَّرَتْهُ وَزَمَّلَتْهُ، وَحِينَ أَجَابَتْهُ بِكَلِمَاتِ الإِيمَانِ وَالثِّقَةِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَتْ لَهُ: كَلَّا وَاللهِ مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ.

هَكَذَا طَمْأَنَتْهُ وَشَدَّتْ أَزْرَهُ مِنْ مُنْطَلَقِ إِيمَانٍ عَمِيقٍ وَرَأْيٍ ثَاقِبٍ وَفِقْهٍ بِبَوَاطِنِ الأُمُورِ.

وَلِأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا الخُلُقِ العَظِيمِ لَنْ يُخْزِيَهُ اللهُ أَبَدًا، لِأَنَّهُ رَبٌّ كَرِيمٌ، وَهِيَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهَا مُؤْمِنَةٌ بِهَذَا الرَّبِّ وَأَنَّهُ لَا يُضَيِّعُ مَنْ يَثِقُ بِهِ وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، وَهَذَا اللَّوْنُ مِنَ الإِيمَانِ يُذَكِّرُنَا بِمَوْقِفِ أُمِّنَا هَاجَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عِنْدَمَا تَرَكَهَا سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في الوَادِي في مَكَّةَ، وَلَيْسَ في ذَلِكَ الوَادِي زَرْعٌ وَلَا مَاءٌ وَلَا حَيَاةٌ، فَقَالَتْ لَهُ وَهُوَ يَهُمُّ بِالرَّحيِلِ: لِمَنْ تَتْرُكُنَا يَا إِبْرَاهِيمُ؟

فَقَالَ لَهَا في ثِقَةِ النَّبِيِّ المُؤْمِنِ بِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ: أَتْرُكُكُمْ للهِ.

فَعَادَتْ تَسْأَلُهُ: أَوَ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ تُرِيدُ أَنْ تَتَأَكَّدَ أَنَّ اللهَ قَدْ أَمَرَهُ بِهَذَا الأَمْرِ.

فَقَالَ سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ: نَعَمْ.

فَجَاءَتْ إِجَابَتُهَا إِجَابَةَ إِنْسَانَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَاثِقَةٍ في الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَتْ لَهُ وَهِيَ تَضُمُّ وَلِيدَهَا: إِذًا لَا يُضَيِّعُنَا أَبَدًا.

هَكَذَا في إِيمَانٍ رَاسِخٍ تَحَدَّثَتْ أُمُّنَا هَاجَرُ، وَتَحَدَّثَتْ بِهِ سَيِّدَتُنَا خَدِيجَةُ في نَفْسِ المَكَانِ وَبِنَفْسِ النَّبَرَاتِ الإِنْسَانِيَّةِ وَبِنَفْسِ الإِيمَانِ وَالثِّقَةِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ.

ثَالِثًا: يَظْهَرُ فِقْهُ السَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ عِنْدَمَا قَالَ لَهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا خَدِيجَةُ، إِنَّهُ يَأْتِينِي آتٍ» وَيَقْصِدُ بِذَلِكَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

فَقَالَتْ لَهُ وَهِيَ تُرِيدُ أَنْ تَعْرِفَ حَقِيقَةَ الوَحْيِ: إِذَا جَاءَكَ أَخْبِرْنِي.

فَقَالَ لَهَا في يَوْمٍ مِنَ الأَيَّامِ: «هَا هُوَ ذَا يَا خَدِيجَةُ قَدْ أَتَى» وَهُنَا تَظْهَرُ رَجَاحَةُ عَقْلِ هَذِهِ السَّيِّدَةِ وَفَهْمُهَا حَيْثُ قَالَتْ للرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: اجْلِسْ إِلَى شَقِّيَ الْأَيْمَنِ.

فَتَحَوَّلَ فَجَلَسَ، فَقَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ الْآنَ؟

قَالَ: «نَعَمْ».

قَالَتْ: فَتَحَوَّلَ فَاجْلِسْ فِي حِجْرِي.

فَتَحَوَّلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ، فَقَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ الْآنَ؟

قَالَ: «نَعَمْ».

فَتَحَسَّرَتْ فَأَلْقَتْ خِمَارَهَا.

فَقَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ الْآنَ؟

قَالَ: «لَا».

فَقَالَتْ قَوْلَتَهَا المَشْهُورَةَ: مَا هَذَا بِشَيْطَانٍ، إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ يَا بْنَ الْعَمِّ، فَاثْبُتْ وَأَبْشِرْ؛ ثُمَّ آمَنَتْ بِهِ؛ وَشَهِدَتْ أَنَّ الَّذِيَ جَاءَ بِهِ الْحَقُّ.

قَالَتْ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ذَلِكَ بِفِقْهٍ لِأَنَّ المَلَكَ غَادَرَ المَكَانَ عِنْدَمَا كَشَفَتْ عَنْ رَأْسِهَا، وَأَدْرَكَتْ أَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ لَا يَتَصَرَّفُهُ شَيْطَانٌ، بَلْ هُوَ مَلَكٌ مِنَ المَلَائِكَةِ؛ هَذَا وَايْمُ اللهِ فِقْهٌ وَأَيُّ فِقْهٍ.

رَابِعًا: وَهَذِهِ لَفْتَةٌ أُخْرَى تُظْهِرُ رَجَاحَةَ عَقْلِ هَذِهِ السَّيِّدَةِ وَفِقْهَهَا، فَقَدْ ذَهَبَتْ إلى ابْنِ عَمِّهَا وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ وَهِيَ تَعْرِفُ مَا لَدَيْهِ مِنْ عِلْمٍ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ دِينٍ، وَطَلَبَتْ مِنْهُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَيَقُصَّ عَلَيْهِ مَا رَأَى وَمَا سَمِعَ؛ فَكَانَ جَوَابُ وَرَقَةَ بَعْدَ أَنْ سَمِعَ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ، وَالَّذِي نَفْسُ وَرَقَةَ بِيَدِهِ، لَئِنْ كُنْتِ صَدَقْتِنِي يَا خَدِيجَةُ، لَقَدْ جَاءَهُ النَّامُوسُ الْأَكْبَرُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى، وَإِنَّهُ لَنَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقُولِي لَهُ فَلْيَثْبُتْ.

وَجَاءَ هَذَا الكَلَامُ تَأْيِيدًا كَبِيرًا وَتَوْثِيقًا عَظِيمًا لِرَأْيِهَا وَشُعُورِهَا وَحَدْسِهَا وَزَادَ مِنْ إِيمَانِهَا بِأَنَّهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

خَامِسًا: دَعُونَا نَرَى فِقْهًا وَاضِحًا جَلِيًّا لِهَذِهِ السَّيِّدَةِ عِنْدَمَا ذَهَبَتْ كَعَادَتِهَا إلى غَارِ حِرَاءٍ تَحْمِلُ المَاءَ وَالزَّادَ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَوَصَلَتْ إِلَيْهِ وَهُوَ مُسْتَغْرِقٌ في عِبَادَتِهِ، مُتَفَرِّغٌ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمُنَاجَاتِهِ لَهُ، فَأَتَاهُ في تِلْكَ اللَّحَظَاتِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ، يَا رَسُولَ اللهِ، هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ، أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ، وَلَا نَصَبَ. رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ.

وَحِينَمَا بَلَّغَهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ جَاءَتْ إِجَابَتُهَا عَلَى مُسْتَوًى رَفِيعٍ وَفِقْهٍ عَظِيمٍ، فَقَدْ قَالَتْ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا تُخَاطِبُ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللهَ هُوَ السَّلَامُ، وَعَلَى جِبْرِيلَ السَّلَامُ، وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.

هُنَا يَظْهَرُ فِقْهُ السَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَعَظَمَتُهَا وَعُمْقُ فَهْمِهَا، فَلَمْ تَقُلْ: عَلَى اللهِ السَّلَامُ، وَإِنَّمَا تَأَدَّبَتْ مَعَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَتْ: إِنَّ اللهَ هُوَ السَّلَامُ، وَعَلَى جِبْرِيلَ السَّلَامُ.

مَا أَعْظَمَهُ مِنْ فِقْهٍ قَبْلَ أَنْ يُعْرَفَ الفِقْهُ، وَمَا أَعْظَمَهُ مِنْ فَهْمٍ تَمَيَّزَتْ بِهِ سَيِّدَتُنَا خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.

هَذِهِ لَمَحَاتٌ مِنْ فِقْهِ هَذِهِ السَّيِّدَةِ الجَلِيلَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا، التي نَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَجْزِيَهَا عَنَّا وَعَنِ المُسْلِمِينَ كُلَّ خَيْرٍ، فَقَدْ أَدَّتْ وَاجِبًا عَظِيمًا، وَخِدْمَةً جَلِيلَةً، وَرِعَايَةً كَبِيرَةً، لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَوَفَّاهَا اللهُ تعالى، وَكَأَنَّهَا قَدْ نَابَتْ عَنَّا جَمِيعًا في خِدْمَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَصْبَحَ لَهَا في رِقَابِنَا دَيْنٌ وَمِنَّةٌ كَبِيرَةٌ، فَجَزَاهَا اللهُ تعالى عَنَّا وَعَنِ المُسْلِمِينَ خَيْرَ الجَزَاءِ.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 1/ جمادى الآخرة /1445هـ، الموافق: 14/كانون الأول / 2023م