37ـ الطاهرة سيدة الشعب

37ـ الطاهرة سيدة الشعب

الطَّاهِرَةُ شَهِيدَةُ الشِّعْبِ:

وَدَعُونَا الآنَ نَتَتَبَّعْ جَانِبًا مِنَ السِّيرَةِ العَطِرَةِ لِهَذِهِ السَّيِّدَةِ العَظِيمَةِ، وَصَبْرِهَا وَاحْتِسَابِهَا وَحُبِّهَا وَحَدَبِهَا عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ في مِحْنَةِ الشِّعْبِ، يَوْمَ تَنَادَتْ قُرَيْشٌ بِعَزْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَحِصَارِهِ مَعَ أَهْلِهِ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي المُطَّلِبِ، وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِمْ في الشِّعْبِ، وَمُقَاطَعَتِهِمْ، فَلَا تَبِيعُهُمْ وَلَا تَشْتَرِي مِنْهُمْ، وَلَا تُزَوِّجُهُمْ وَلَا تَتَزَوَّجُ مِنْهُمْ، وَفي ذَلِكَ مَا فِيهِ مِنَ المَشَقَّةِ وَالعُسْرِ وَالعَنَتِ!!

وَمَضَتْ قُرَيْشٌ عَاتِيَةً في غَلْوَائِهَا، جَائِرَةً في عُدْوَانِهَا، غَافِلَةً عَنِ الهَدْيِ الذي أُهْدِيَ إِلَيْهَا مِنَ السَّمَاءِ، وَالمَجْدِ الذي فَتَحَ لَهَا بَابَ السِّيَادَةِ العَالَمِيَّةِ وَالعَلَاءِ، نَسِيَتْ مَا مَلَأَ وُجْدَانَ عُقَلَائِهَا مِنْ تَشَوُّقٍ إلى نَبِيِّ آخِرِ الزَّمَانِ، وَلَا مَا تَحَدَّثَ بِهِ المُتَحَنِّثُونَ وَالعَرَّافُونَ وَالرُّهْبَانُ، بَلْ نَسِيَتْ أَنَّ عِنَادَ طُغَاتِهَا في حَقِيقَتِهِ لَمْ يَكُنْ صَادِرًا عَنِ اعْتِزَازٍ بِمَوَارِيثِ الوَثَنِيَّةِ المُنْطَفِئَةِ في ضَمَائِرِهِمْ، وَلَقَدْ صَرَّحَ فِرْعَوْنُهُمُ الأَثِيمُ بِذَلِكَ، فَلَمْ يَعُدْ خَافِيًا أَنَّهَا أَحْقَادٌ وَعَصَبِيَّاتٌ تُعْمِي العُيُونَ عَنْ بَاهِرِ النُّورِ، وَرَوْعَةِ الفَجْرِ المُطِلِّ مِنْ خَلْفِ ثَنَايَا الأُفُقِ، لَقَدْ قَالَ فِرْعَوْنُهُمْ أَبُو جَهْلٍ في تَعْلِيلِ حِقْدِهِ وَعِنَادِهِ: كُنَّا وَبَنِي هَاشِمٍ كَفَرَسَيْ رِهَانٍ، حَتَّى إِذَا تَحَاذَتِ الرَّكْبُ، قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ، فَمَتَى نُدْرِكُ هَذَا؟ لَا وَاللهِ لَا نُقِرُّ بِهَا أَبَدًا.

وَهَاجَرَ المُهَاجِرُونَ مِنْ وَطْأَةِ العَذَابِ إلى الحَبَشَةِ، وَبَقِيَ صَاحِبُ الدَّعْوَةِ وَالصَّابِرُونَ مَعَهُ، وَرَغْمَ مَا كَانَ يَلْقَاهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ حَوْلَهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ مِنْ صُنُوفِ العَذَابِ وَالآلَامِ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُثْنِ آخَرِينَ مِنَ الدُّخُولِ في الدِّينِ الجَدِيدِ، حَتَّى عُمَرَ الذي كَانَ قَدْ هَمَّ بِقَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لَكِنْ بَهَرَهُ صِدْقُ اليَقِينِ، وَاسْتَجَابَ اللهُ فِيهِ دَعْوَةَ النَّبِيِّ الكَرِيمِ فَأَسْلَمَ، وَمِنْ قَبْلِ ذَلِكَ بِزَمَنٍ يَسِيرٍ دَخَلَ في دِينِ اللهِ أَسَدُ اللهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ حَمْزَةُ عَمُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَجِدِ المُعَانِدُونَ إِلَّا أَنْ يُحَاصِرُوا المُؤْمِنِينَ، وَيَكْتُبُوا وَثِيقَةً بِمُقَاطَعَتِهِمُ اجْتِمَاعِيًّا، فَلَا يُحْدِثُونَ تَزْوِيجًا إِلَيْهِمْ، وَاقْتِصَادِيًّا بِأَنْ لَا يَبِيعُوا لَهُمْ وَلَا يَبْتَاعُوا مِنْهُمْ، وَذَلِكَ أَمْرٌ قَدْ يَجِدُ فُرْجَةً مُسْعِفَةً في مُجْتَمَعٍ آخَرَ غَيْرِ المُجْتَمَعِ المَكِّيِّ، يَقَعُ عَلَى القُرْبِ مِنْهُ رِيفٌ مُنْتِجٌ، أَو يَضُمُّ هُوَ في أَرْضِهِ بَعْضَ مَا يَحْتَاجُهُ الأَحْيَاءُ مِنْ زُرُوعٍ وَثِمَارٍ، أَو يَأْوِي سُكَّانُهُ إلى حَاكِمٍ مَرْكَزِيٍّ، يَخْشَوْنَ إِنْ أَفْرَطُوا في العُدْوَانِ أَنْ يَغْضَبَ وَيَتَدَخَّلَ.

أَمَّا مُجْتَمَعُ مَكَّةَ فَسُرَاتُهُ المُعَانِدُونَ هُمُ المَالِكُونَ للسُّلْطَانِ المَدَنِيِّ وَالتَّسَلُّطِ المَالِيِّ، وَالقَهْرِ العَسْكَرِيِّ، وَعِمَادُ حَيَاتِهِمْ مَا يَجْلِبُونَهُ في قَوَافِلِهِمْ مِمَّا يَأْكُلُونَ وَيَلْبَسُونَ، فَمَنْ مُنِعَ البَيْعَ وَالشِّرَاءَ فِيهِمْ فَقَدْ حُرِمَ كلَّ أَسْبَابِ البَقَاءِ، وَيَصْمُدُ المُؤْمِنُونَ لِهَذَا الأَمْرِ وَهُمْ وَاثِقُونَ بِالقُدْرَةِ العُلْيَا التي يُؤْمِنُونَ بِهَا، وَيُخَاصِمُهُمْ هَؤُلَاءِ المُعَانِدُونَ في أَصْلِ هَذَا الإِيَمَانِ.

وَإِذَا كَانَ مِنْ شَأْنِ مَنْ عَاشَ الحَيَاةَ الخَشِنَةَ وَتَمَرَّنَ عَلَى خُشُونَتِهَا وَقَسْوَتِهَا، أَنْ يَتَحَمَّلَ كَثِيرًا مِنْ شَظَفِ العَيْشِ إِذَا فُرِضَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ شَأْنُ أَهْلِ البَادِيَةِ وَالبُسَطَاءِ مِنْ أَهْلِ القُرَى وَالحَوَاضِرِ، فَإِنَّهُ لَمِنَ العَجَبِ العُجَابِ أَنْ تَحْتَمِلَ قَسْوَةَ الحِصَارِ، وَلَوْعَةَ الشِّعْبِ، وَشِدَّةَ العَيْشِ امْرَأَةٌ مُنَعَّمَةٌ كُلَّ عُمُرِهَا مِثْلُ سَيِّدَتِنَا خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، وَأَنْ تَنْحَازَ إلى مَنْ حَاصَرَتْهُمْ قُرَيْشٌ مُخْتَارَةً رَاغِبَةً، حَتَّى تَسْتَعْلِنَ بِإِيمَانِهَا العَمِيقِ بِهَذَا الدِّينِ الذي كَانَتْ أَوَّلَ مَنْ تَطَلَّعَ إلى فَجْرِهِ، وَامْتَدَّ حَدْسُهَا قَبْلَ مَجِيئِهِ بِالكَشْفِ عَنْ شَخْصِيَّةِ النَّبِيِّ المُنْتَظَرِ، مِمَّا رَغَّبَهَا بِالسَّعْيِ للزَّوَاجِ مِنْهُ، وَتَأْيِيدِهِ وَدَعْمِهِ وَالتَّصْدِيقِ بِكُلِّ مَا يَقُولُ، وَحَتَّى تُؤَكِّدَ حُبَّهَا الصَّادِقَ لِمَنْ تَوَقَّعَتْ نُبُوَّتَهُ فَأَحَبَّتْهُ، فَتًى نَبِيلًا صَادِقًا أَمِينًا، وَأَحَبَّتْهُ بِكُلِّ مَا يَمْلِكُ ذَلِكَ القَلْبُ الطَّاهِرُ مِنْ يَنَابِيعِ العَاطِفَةِ الطَّاهِرَةِ المُتَوَقِّدَةِ، بَعْدَ أَنْ غَدَا نَبِيَّهَا المُتَمَنَّى، وَهَادِيَهَا الكَرِيمَ، نَعَمْ تَزَوَّجَتْهُ فَتًى وَسِيمًا شَرِيفًا أَمِينًا ذَا خُلُقٍ عَظِيمٍ، مَعَ تَوَقُّعِهَا لَهُ التَّمَيُّزَ عَلَى كُلِّ الرِّجَالِ بِمَا يَدُورُ حَوْلَهُ مِنْ إِرْهَاصَاتٍ، وَلَكِنَّ هَذَا الحُبَّ أَصْبَحَ شَيْئًا فَوْقَ الوَصْفِ، يَوْمَ أَنْ تَحَقَّقَ لَهَا فِيهِ النَّبِيُّ الأَمَلُ وَالرَّسُولُ المَوْعُودُ.

وَكَانَ هَذَا الحُبُّ النَّابِعُ مِنَ الإِيمَانِ زَادَ هَذِهِ السَّيِّدَةِ العَظِيمَةِ المُرْهَفَةِ أَيَّامَ مِحْنَةِ الشِّعْبِ، وَقَسْوَةِ الحِصَارِ، وَكَانَ أَلَمُهَا البَالِغُ فِيهِ فَيْضًا مَأْسَاوِيًّا مِنْ مَعِدَةٍ جَائِعَةٍ، وَجَسَدٍ مُنْهَكٍ مِنْ أَثْقَالِ السِّنِّينَ، وَتَبِعَاتِ الجِهَادِ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا يُؤْلِمُهَا وَيَعْتَصِرُ قَلْبَهَا لَهُ أَلَمًا أَنْ تَرَى زَوْجَهَا الحَبِيبَ، وَنَبِيَّهَا المُفَدَّى يَتَحَمَّلُ كُلَّ ذَلِكَ الأَذَى وَالتَّعَبِ وَالنَّصَبِ، وَيَتَحَمَّلُ فَوْقَ ذَلِكَ وَقْدَةَ الإِشْفَاقِ عَلَى أَصْحَابِهِ الصَّامِدِينَ لِمِحْنَةٍ تَنْشَقُّ لِوَطْأَتِهَا الجَلَامِيدُ، وَهُوَ يَرَاهُمْ يَأْكُلُونَ أَوْرَاقَ الشَّجَرِ حَتَّى تَقَرَّحَتْ أَشْدَاقُهُمْ، فَهِيَ تَحْمِلُ مَعَهُ هُمُومَهُ كُلَّهَا، هُمُومَ دَعْوَتِهِ، وَهُمُومَ مِحْنَتِهِ، وَهُمُومَ أَصْحَابِهِ، وَتَبْذُلُ مَا اسْتَطَاعَتْ مِنْ مَالِهَا لِتُخَفِّفَ عَنْهُ وَعَنْهُمْ حِدَّةَ المَأْسَاةِ التي عَاشَتْ سَاعَاتِهَا المُمْتَدَّةَ طِيلَةَ سَنَوَاتِ الشِّعْبِ الثَّلَاثِ، تَحْمِلُ كُلُّ سَاعَةٍ عَلَى مَدَاهَا حَدَثًا جَدِيدًا وَأَلَمًا شَدِيدًا.

فَلَمْ تَرْضَ السَّيِّدَةُ العَظِيمَةُ أَنْ تَبْقَى في دَارِهَا المُتْرَفَةِ تَنْعَمُ بِرَغَدِ العَيْشِ، لَقَدْ كَانَ ذَلِكَ بِيَدِهَا لَوْ أَرَادَتْ، وَلَهَا في عَشِيرَتِهَا بَنِي أَسَدٍ قُوَّةٌ وَمَنَعَةٌ، وَلَكِنَّهَا آثَرَتْ أَنْ تَلْحَقَ بِزَوْجِهَا الحَبِيبِ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَرَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا.

تَرَكَتْ مَبَاهِجَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا، وَلَحِقَتْ بِالمُجَاهِدِينَ الصَّابِرِينَ تَقِفُ إلى جَانِبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَتَشُدُّ أَزْرَ أَصْحَابِهِ، وَتَذُوقُ مَعَهُمْ مَرَارَةَ العَيْشِ وَشَظَفَهُ، وَقَسْوَةَ الطُّغَاةِ ... كَيْفَ لَا؟

أَلَيْسَتْ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ؟ وَأَوَّلَ مَنْ صَلَّى مَعَ الرَّسُولِ الحَبِيبِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

آمَنَتْ بِهِ حِينَ كَفَرَ النَّاسُ، وَصَدَّقَتْهُ حِينَ كَذَّبَهُ النَّاسُ، وَوَاسَتْهُ بِمَالِهَا وَحَنَانِهَا حِينَ حَرَمَهُ النَّاسُ، كَانَتْ لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ يَجِدُ عِنْدَهَا الأَمْنَ وَالأَمَانَ، وَالثِّقَةَ وَالحَنَانَ، وَالمَوَدَّةَ الصَّادِقَةَ، وَالحُبَّ الكَبِيرَ، وَكَأَنِّي بِهَا تَسْتَرْجِعُ ذِكْرَيَاتٍ عَزِيزَةً، حِينَ فَجَأَهُ الوَحْيُ في غَارِ حِرَاءٍ، فَأَسْرَعَ إِلَيْهَا خَائِفًا مُرْتَعِدًا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ وَيَخْفِقُ فُؤَادُهُ، فَتَتَلَقَّاهُ كَالأُمِّ الحَنُونِ، وَتُطَمْئِنُهُ بِقَوْلِهَا: كَلَّا وَاللهِ مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ.

أَمْ كَيْفَ تَنْسَى حِينَ جَاءَهَا ثَانِيَةً مُرْتَجِفًا وَهُوَ يَقُولُ: دَثِّرُونِي دَثِّرُونِي، فَأَسْرَعَتْ إِلَيْهِ لِيَجِدَ في صَدْرِهَا الحَانِي السَّكِينَةَ وَالطُّمَأْنِينَةَ، لَقَدْ كَانَتْ مَعَهُ في كُلِّ حِينٍ بِقَلْبِهَا وَعَقْلِهَا وَجَوَارِحِهَا كُلِّهَا، تُؤَيِّدُهُ وَتُثَبِّتُهُ وَتُزِيلُ هُمُومَهُ، وَتَحْنُو عَلَيْهِ.

فَهَلْ تَتْرُكُهُ الآنَ يُحَاصَرُ في الشِّعْبِ بَعِيدًا عَنْهَا!! وَهِيَ التي وَهَبَتْ حَيَاتَهَا وَكُلَّ مَا تَمْلِكُ مِنْ أَجْلِ الحَبِيبِ، وَفي سَبِيلِ الدَّعْوَةِ مَعَهُ إلى اللهِ تعالى، لَقَدْ آثَرَتْهُ عَلَى الدُّنْيَا بِكُلِّ مَا فِيهَا وَمَضَتْ مَعَهُ إلى الشِّعْبِ لِتُوَاصِلَ مَا بَدَأَتْهُ مَعَهُ في الدَّعْوَةِ وَالتَّثْبِيتِ وَالتَّأْيِيدِ وَالنُّصْرَةِ، وَلِتَكُونَ لَهُ كَمَا كَانَتْ يَدًا حَانِيَةً، وَزَوْجًا حَنُونًا، وَأُمًّا رَؤُومًا صَادِقَةً وَمُصَدِّقَةً.

وَلَمْ تَمْنَعْهَا سِنُّهَا وَهِيَ تَخْطُو نَحْوَ الثَّالِثَةِ وَالسِّتِّينَ مِنْ مُتَابَعَةِ الجِهَادِ، وَهِيَ التي كَانَتْ بِحَاجَةٍ إلى الرَّاحَةِ، وَإلى مَنْ يَعْتَنِي بِهَا، لَكِنَّ الحَبِيبَ في أَشَدِّ الحَاجَةِ إِلَيْهَا، فَلْتَتَحَامَلْ عَلَى نَفْسِهَا، وَتَمْضِي مَعَهُ صَابِرَةً مُجَاهِدَةً، وَلَقَدْ أَثَّرَ مَوْقِفُهَا في رِجَالِ عَشِيرَتِهَا، كَيْفَ يَرْضَوْنَ أَنْ تَجُوعَ وَتُحْرَمَ تِلْكَ المَرْأَةُ العَظِيمَةُ التي كَانَتْ تُغْدِقُ عَلَى بُيُوتَاتِ عَشِيرَتِهَا مِنَ البِرِّ وَالخَيْرِ مَا لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ كِبَارُ أَغْنِيَائِهِمْ، بَلْ كِبَارُ كُرَمَائِهِمْ؟

فَانْدَفَعَ بَعْضُهُمْ يَحْمِلُ إِلَيْهَا الطَّعَامَ سِرًّا، وَهَا هُوَ ذَا ابْنُ أَخِيهَا حَكِيمُ بْنُ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدٍ يَحْمِلُ إِلَيْهَا القَمْحَ، وَمَرَّةً يَلْقَاهُ أَبُو جَهْلٍ فَيُحَاوِلُ مَنْعَهُ وَيَتَمَاسَكُ الرَّجُلَانِ، وَيَرَاهُمَا أَبُو البُخْتُرِيِّ بْنُ هِشَامٍ ـ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ ـ فَيَتَصَدَّى لِأَبِي جَهْلٍ وَيَضْرِبُهُ بِعُنْفٍ وَيَشُجُّهُ وَيُلْقِيهِ إلى الأَرْضِ، ثُمَّ يَطَؤُهُ وَطْأً شَدِيدًا.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 29/ جمادى الآخرة /1445هـ، الموافق: 11/كانون الثاني/ 2024م