82ـ امرؤ سريرته كعلانيته (الحسن البصري)

82ـ امرؤ سريرته كعلانيته (الحسن البصري)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: حَدَّثَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ قَالَ: لَقِيتُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ المَلِكِ في الحِيْرَةِ فَقَالَ لِي: أَخْبِرْنِي عَنْ حَسَنِ البَصْرَةِ، فَإِنَّي أَظُنُّ أَنَّكَ تَعْرِفُ مِنْ أَمْرِهِ مَا لَا يَعْرِفُ سِوَاكَ.

فَقُلْتُ: أَصْلَحَ اللهُ الأَمِيرَ، أَنَا خَيْرُ مَنْ يُخْبِرُكَ عَنْهُ بِعِلْمٍ، فَأَنَا جَارُهُ في بَيْتِهِ، وَجَلِيسُهُ في مَجْلِسِهِ، وَأَعْلَمُ أَهْلِ البَصْرَةِ بِهِ

فَقَالَ مَسْلَمَةُ: هَاتِ مَا عِنْدَكَ.

فَقُلْتُ: إِنَّهُ امْرُؤٌ سَرِيرَتُهُ كَعَلَانِيَتِهِ، وَقَوْلُهُ كَفِعْلِهِ، إِذَا أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ كَانَ أَعْمَلَ النَّاسِ بِهِ، وَإِذَا نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ كَانَ أَتْرَكَ النَّاسِ لَهُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ مُسْتَغْنِيًا عَنِ النَّاسِ زَاهِدًا بِمَا في أَيْدِيهِمْ، وَرَأَيْتُ النَّاسَ مُحْتَاجِينَ إِلَيْهِ طَالِبِينَ مَا عِنْدَهُ.

فَقَالَ مَسْلَمَةُ: حَسْبُكَ يَا خَالِدُ حَسْبُكَ، كَيْفَ يَضِلُّ قَوْمٌ فِيهِمْ مِثْلُ هَذَا؟!

وَلَمَّا وَلِيَ الحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ العِرَاقَ، وَطَغَى في وِلَايَتِهِ وَتَجَبَّرَ، كَانَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى أَحَدَ الرِّجَالِ القَلَائِلِ الذينَ تَصَدَّوْا لِطُغْيَانِهِ، وَجَهَرُوا بَيْنَ النَّاسِ بِسُوءِ أَفْعَالِهِ، وَصَدَعُوا بِكَلِمَةِ الحَقِّ في وَجْهِهِ.

مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الحَجَّاجَ بَنَى لِنَفْسِهِ بِنَاءً في وَاسِطَ؛ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ، نَادَى في النَّاسِ أَنْ يَخْرُجُوا للفُرْجَةِ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ بِالبَرَكَةِ، فَلَمْ يَشَأِ الحَسَنُ أَنْ يُفَوِّتَ عَلَى نَفْسِهِ فُرصَةَ اجْتِمَاعِ النَّاسِ هَذِهِ.

فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ لِيَعِظَهُمْ وَيُذَكِّرَهُمْ، وَيُزَهِّدَهُمْ بِعَرَضِ الدُّنْيَا، وَيُرَغِّبَهُمْ بِمَا عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.

وَلَمَّا بَلَغَ المَكَانَ، وَنَظَرَ إلى جُمُوعِ النَّاسِ وَهِيَ تَطُوفُ بِالقَصْرِ المُنِيفِ مَأْخُوذَةً بِرَوْعَةِ بِنَائِهِ، مَدْهُوشَةً بِسَعَةِ أَرْجَائِهِ، مَشْدُودَةً إلى بَرَاعَةِ زَخَارِفِهِ، وَقَفَ فِيهِمْ خَطِيبًا، وَكَانَ في جُمْلَةِ مَا قَالَهُ:

لَقَدْ نَظَرْنَا فِيمَا ابْتَنَى أَخْبَثُ الأَخْبَثِينَ، فَوَجَدْنَا أَنَّ فِرْعَوْنَ شَيَّدَ أَعْلَى مِمَّا شَيَّدَ، وَبَنَى أَعْلَى مِمَّا بَنَى، ثُمَّ أَهْلَكَ اللهُ فِرْعَوْنَ، وَأَتَى عَلَى مَا بَنَى وَشَيَّدَ.

لَيْتَ الحَجَّاجَ يَعْلَمُ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ قَدْ مَقَتُوهُ، وَأَنَ أَهْلَ الأَرْضِ قَدْ غَرُّوهُ.

وَمَضَى يَتَدَفَّقُ عَلَى هَذَا المِنْوَالِ حَتَّى أَشْفَقَ عَلَيْهِ أَحَدُ السَّامِعِينَ مِنْ نِقْمَةِ الحَجَّاجِ، فَقَالَ لَهُ: حَسْبُكَ يَا أَبَا سَعِيدٍ! حَسْبُكَ.

فَقَالَلَهُ الحَسَنُ: لَقَدْ أَخَذَ اللهُ المِيثَاقَ عَلَى أَهْلِ العِلْمِ لَيُبَيِّنُنَّهُ للنَّاسِ وَلَا يَكْتُمُونَهُ.

وَفي اليَوْمِ التَّالِي دَخَلَ الحَجَّاجُ إلى مَجْلِسِهِ، وَهُوَ يَتَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ، وَقَالَ لِجُلَّاسِهِ: تَبًّا لَكُمْ وَسُحْقًا، يَقُومُ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِ أَهْلِ البَصْرَةِ وَيَقُولُ فِينَا مَا شَاءَ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ لَا يَجِدُ فِيكُمْ مَنْ يَرُدُّهُ أَو يُنْكِرُ عَلَيْهِ؛ وَاللهِ لَأَسْقَيِنَّكُمْ مِنْ دَمِهِ يَا مَعْشَرَ الجُبَنَاءِ.

ثُمَّ أَمَرَ بِالسَّيْفِ وَالنَّطْعِ، فَأُحْضِرَا.

وَدَعَا بِالجَلَّادِ، فَمَثَلَ وَاقِفًا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ وَجَّهَ إلى الحَسَنِ بَعْضَ شُرَطِهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْتُوهُ بِهِ.

وَمَا هُوَ إِلَّا قَلِيلٌ حَتَّى جَاءَ الحَسَنُ، فَشَخَصَتْ نَحْوَهُ الأَبْصَارُ، وَوَجَفَتْ عَلَيْهِ القُلُوبُ.

فَلَمَّا رَأَى الحَسَنُ السَّيْفَ وَالنَّطْعَ وَالجَلَّادَ، حَرَّكَ شَفَتَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الحَجَّاجِ وَعَلَيْهِ جَلَالُ المُؤْمِنِ، وَعِزَّةُ المُسْلِمِ، وَوَقَارُ الدَّاعِيَةِ إلى اللهِ تعالى.

فَلَمَّا رَآهُ الحَجَّاجُ عَلَى حَالِهِ هَذِهِ، هَابَهُ أَشَدَّ الهَيْبَةِ وَقَالَ لَهُ: هَا هُنَا يَا أَبَا سَعِيدٍ، هَا هُنَا.

ثُمَّ مَا زَالَ يُوَسِّعُ لَهُ وَيَقُولُ: هَا هُنَا، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ في دَهْشَةٍ وَاسْتِغْرَابٍ حَتَّى أَجْلَسَهُ عَلَى فِرَاشِهِ.

وَلَمَّا أَخَذَ الحَسَنُ مَجْلِسَهُ الْتَفَتَ إِلَيْهِ الحَجَّاجُ، وَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ بَعْضِ أُمُورِ الدِّينِ، وَالحَسَنُ يُجِيبُهُ عَنْ كُلِّ مَسْأَلَةٍ بِجَنَانٍ ثَابِتٍ، وَبَيَانٍ سَاحِرٍ، وَعِلْمٍ وَاسِعٍ.

فَقَالَ لَهُ الحَجَّاجُ: أَنْتَ سَيِّدُ العُلَمَاءِ يَا أَبَا سَعِيدٍ! ثُمَّ دَعَا بِغَالِيَةٍ وَطَيَّبَ لَهُ بِهَا لِحْيَتَهُ وَوَدَّعَهُ.

وَلَمَّا خَرَجَ الحَسَنُ مِنْ عِنْدِهِ تَبِعَهُ حَاجِبُ الحَجَّاجِ وَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، لَقَدْ دَعَاكَ الحَجَّاجُ لِغَيْرٍ مَا فَعَلَ بِكَ، وَإِنِّي رَأَيْتُكَ عِنْدَمَا أَقْبَلْتَ وَرَأَيْتَ السَّيْفَ وَالنَّطْعَ، قَدْ حَرَّكْتَ شَفَتَيْكَ، فَمَاذَا قُلْتَ؟

فَقَالَ الحَسَنُ: يَا وَلِيَّ نِعْمَتِي، وَمَلَاذِي عِنْدَ كُرْبَتِي، اجْعَلْ نِقْمَتَهُ بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَيَّ، كَمَا جَعَلْتَ النَّارَ بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ.

وَلَقَدْ كَثُرَتْ مَوَاقِفُ الحَسَنِ البَصْرِيِّ هَذِهِ مَعَ الوُلَاةِ وَالأُمَرَاءِ، فَكَانَ يَخْرُجُ مِنْ كُلٍّ مِنْهَا عَظِيمًا في أَعْيُنِ ذَوِي السُّلْطَانِ، عَزِيزًا بِاللهِ، مَحْفُوظًا بِحِفْظِهِ.

مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ بَعْدَ أَنِ انْتَقَلَ الخَلِيفَةُ الزَّاهِدُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ إلى جِوَارِ رَبِّهِ، وَآلَتِ الخِلَافَةُ إلى يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ، وَلَّى عَلَى العِرَاقِ عُمَرَ بْنَ هُبَيْرَةَ الفَزَارِيَّ.

ثُمَّ زَادَهُ بَسْطَةً في السُّلْطَانِ، فَأَضَافَ إِلَيْهِ خُرَاسَانَ أَيْضًا.

وَسَارَ يَزِيدُ في النَّاسِ سِيرَةً غَيْرَ سِيرَةِ سَلَفِهِ العَظِيمِ.

فَكَانَ يُرْسِلُ إلى عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ بِالكِتَابِ تِلْوَ الكِتَابِ، وَيَأْمُرُهُ بِإِنْفَاذِ مَا فِيهَا وَلَو كَانَ مُجَافِيًا للحَقِّ أَحْيَانًا.

فَدَعَا عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ كُلًّا مِنَ الحَسَنِ البَصْرِيِّ، وَعَامِرِ بْنِ شُرَاحِبِيلَ، المَعْرُوفِ بِالشَّعْبِيِّ، وَقَالَ لَهُمَا: إِنَّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ المَلِكِ قَدِ اسْتَخْلَفَهُ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَأَوْجَبَ طَاعَتَهُ عَلَى النَّاسِ، وَقَدْ وَلَّانِي مَا تَرَوْنَ مِنْ أَمْرِ العِرَاقِ، ثُمَّ زَادَنِي فَوَلَّانِي فَارِسَ، وَهُوَ يُرْسِلُ إِلَيَّ أَحْيَانًا كُتُبًا يَأْمُرُنِي فِيهَا بِإِنْفَاذِ مَا لَا أَطْمَئِنُّ إِلَى عَدَالَتِهِ، فَهَلْ تَجِدَانِ لِي في مُتَابَعَتِي إِيَّاهُ وَإِنْفَاذِ أَوَامِرِهِ مَخْرَجًا في الدِّينِ؟

فَأَجَابَ الشَّعْبِيُّ جَوَابًا فِيهِ مُلَاطَفَةٌ للخَلِيفَةِ، وَمُسَايَرَةٌ للوَالِي، وَالحَسَنُ سَاكِتٌ.

فَالْتَفَتَ عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ إلى الحَسَنِ وَقَالَ: وَمَا تَقُولُ أَنْتَ يَا أَبَا سَعِيدٍ؟

فَقَالَ: يَابْنَ هُبَيْرَةَ خَفِ اللهَ في يَزِيدَ، وَلَا تَخَفْ يَزِيدَ في اللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ جَلَّ وَعَزَّ يَمْنَعُكَ مِنْ يَزِيدَ، وَأَنَّ يَزِيدَ لَا يَمْنَعُكَ مِنَ اللهِ.

يَابْنَ هُبَيْرَةَ، إِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَنْزِلَ بِكَ مَلَكٌ غَلِيظٌ شَدِيدٌ لَا يَعْصِي اللهَ مَا أَمَرَهُ، فَيُزِيلَكَ عَنْ سَرِيرِكَ هَذَا، وَيَنْقُلَكَ مِنْ سَعَةِ قَصْرِكَ إلى ضِيقِ قَبْرِكَ، حَيْثُ لَا تَجِدُ هُنَاكَ يَزِيدَ، وَإِنَّمَا تَجِدُ عَمَلَكَ الذي خَالَفْتَ فِيهِ رَبَّ يَزِيدَ.

يَابْنَ هُبَيْرَةَ إِنَّكَ إِنْ تَكُ مَعَ اللهِ تعالى وَفِي طَاعَتِهِ يَكْفِكَ بَائِقَةَ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَإِنْ تَكُ مَعَ يَزِيدَ في مَعْصِيَةِ اللهِ تعالى فَإِنَّ اللهَ يَكِلُكَ إلى يَزِيدَ.

وَاعْلَمْ يَابْنَ هُبَيْرَةَ أَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ ـ كَائِنًا مَنْ كَانَ ـ في مَعْصِيَةِ الخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ.

فَبَكَى عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ حَتَّى بَلَّلَتْ دُمُوعُهُ لِحْيَتَهُ، وَمَالَ عَنِ الشَّعْبِيِّ إلى الحَسَنِ، وَبَالَغَ في إِعْظَامِهِ وَإِكْرَامِهِ.

فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ تَوَجَّهَا إلى المَسْجِدِ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمَا النَّاسُ، وَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُمَا عَنْ خَبَرِهِمَا مَعَ أَمِيرِ العِرَاقَيْنِ.

فَالْتَفَتَ الشَّعْبِيُّ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُؤْثِرَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى خَلْقِهِ في كُلِّ مَقَامٍ فَلْيَفْعَلْ، فَوَالذي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا قَالَ الحَسَنُ لِعُمَرَ بْنِ هُبَيَرْةَ قَوْلًا أَجْهَلُهُ، وَلَكِنِّي أَرَدْتُ فِيمَا قُلْتُهُ وَجْهَ ابْنِ هُبَيْرَةَ، وَأَرَادَ فِيمَا قَالَهُ وَجْهَ اللهِ، فَأْقَصَانِي اللهُ مِنِ ابْنِ هُبَيْرَةَ وَأَدْنَاهُ مِنْهُ وَحَبَّبَهُ إِلَيْهِ.

وَقَدْ عَاشَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ نَحْوًا مِنْ ثَمَانِينَ عَامًا مَلَأَ الدُّنْيَا خِلَالَهَا عِلْمًا وَحِكْمَةً وَفِقْهًا.

وَكَانَ مِنْ أَجَلِّ مَا وَرَّثَهُ للأَجْيَالِ رَقَائِقُهُ التي ظَلَّتْ عَلَى الأَيَّامِ رَبِيعًا للقُلُوبِ، وَمَوَاعِظُهُ التي هَزَّتْ وَمَا زَالَتْ تَهُزُّ الأَفْئِدَةَ، وَتَسْتَدِرُّ الشُّؤُونَ، وَتَدُلُّ التَّائِهِينَ عَلَى اللهِ، وَتُنَبِّهُ الغَارِّينَ الغَافِلِينَ إلى حَقِيقَةِ الدُّنْيَا، وَحَالِ النَّاسِ مَعَهَا.

مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ لِسَائِلٍ سَأَلَهُ عَنِ الدُّنْيَا وَحَالِهَا: تَسْأَلُنِي عَنِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، إِنَّ مَثَلَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ كَمَثَلِ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، مَتَى ازْدَدْتَ مِنْ أَحَدِهِمَا قُرْبًا ازْدَدْتَ مِنَ الآخَرِ بُعْدًا، وَتَقُولُ لِي صِفْ هَذِهِ الدَّارَ.

فَمَاذَا أَصِفُ لَكَ مِنْ دَارٍ أَوَّلُهَا عَنَاءٌ، وَآخِرُهَا فَنَاءٌ، وَفي حَلَالِهَا حِسَابٌ، وَفي حَرَامِهَا عِقَابٌ، مَنِ اسْتَغْنَى فِيهَا فُتِنَ، وَمَنِ افْتَقَر فِيهَا حَزِنَ.

وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ لِآخَرَ سَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ وَحَالِ النَّاسِ، وَيْحَنَا مَاذَا فَعَلْنَا بِأَنْفُسِنَا؟ لَقَدْ أَهْزَلْنَا دِينَنَا، وَسَمَّنَّا دُنْيَانَا، وَأَخْلَقْنَا أَخْلَاقَنَا، وَجَدَّدْنَا فُرُشَنَا وَثِيَابَنَا.

يَتَّكِئُ أَحَدُنَا عَلَى شِمَالِهِ، وَيَأْكُلُ مِنْ مَالٍ غَيْرِ مَالِهِ؛ طَعَامُهُ غَصْبٌ، وَخِدْمَتُهُ سُخْرَةٌ (قَهْرًا بِلَا أَجْرٍ) يَدْعُو بِحُلْوٍ بَعْدَ حَامِضٍ، وَبِحَارٍّ بَعْدَ بَارِدٍ، وَبِرَطْبٍ بَعْدَ يَابِسٍ، حَتَّى إِذَا أَخَذَتْهُ الكِظَّةُ (مَا يَعْتَرِي الإِنْسَانَ عِنْدَ الامْتِلَاءِ مِنَ الطَّعَامِ مِنَ الضِّيقِ وَالأَلَمِ) تَجَشَّأَ مِنَ البَشَمِ (التُّخْمَةِ) ثُمَّ قَالَ: يَا غُلَامُ، هَاتِ هَاضُومًا يَهْضِمُ الطَّعَامَ.

يَا أُحَيْمِقُ، وَاللهِ لَنْ تَهْضِمَ إِلَّا دِينَكَ.

أَيْنَ جَارُكَ المُحْتَاجُ؟ أَيْنَ يَتِيمُ قَوْمِكَ الجَائِعُ؟ أَيْنَ مِسْكِينُكَ الذي يَنْظُرُ إِلَيْكَ؟ أَيْنَ مَا وَصَّاكَ بِهِ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ؟ لَيْتَكَ تَعْلَمُ أَنَّكَ عَدَدٌ، وَأَنَّهُ كُلَّمَا غَابَتْ عَنْكَ شَمْسُ يَوْمٍ نَقَصَ شَيْءٌ مِنْ عَدَدِكَ، وَمَضَى بَعْضُكَ مَعَهُ.

وَفي لَيْلَةِ الجُمُعَةِ مِنْ غُرَّةِ رَجَبٍ سَنَةَ مِئَةٍ وَعَشْرٍ، لَبَّى الحَسَنُ البَصْرِيُّ نِدَاءَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ وَشَاعَ فِيهِمْ نَعْيُهُ، ارْتَجَّتِ البَصْرَةُ لِمَوْتِهِ رَجًّا.

فَغُسِّلَ وَكُفِّنَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الجُمُعَةِ في الجَامِعِ الذي قَضَى في رِحَابِهِ جُلَّ حَيَاتِهِ عَالِمًا وَمُعَلِّمًا، وَدَاعِيًا إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.

ثُمَّ تَبِعَ النَّاسُ جَمِيعًا جِنَازَتَهُ، فَلَمْ تُقَمْ صَلَاةُ العَصْرِ في ذَلِكَ اليَوْمِ في جَامِعِ البَصْرَةِ، لِأَنَّهُ لمْ يَبْقَ فِيهِ أَحَدٌ يُقِيمُ الصَّلَاةَ.

وَلَا يَعْلَمُ النَّاسُ أَنَّ الصَّلَاةَ عُطِّلَتْ في جَامِعِ البَصْرَةِ مُنْذُ ابْتَنَاهُ المُسْلِمُونَ إِلَّا في ذَلِكَ اليَوْمِ، يَوْمِ انْتِقَالِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ إلى جِوَارِ رَبِّهِ تَبَارَكَ وتعالى.

**   **    **

تاريخ الكلمة:

يوم الاثنين: 26/ رمضان / 1444 هـ، الموافق: 17/ نيسان / 2023 م