868ـ خطبة الجمعة: أسباب حسن الخاتمة وعلاماتها

868ـ خطبة الجمعة: أسباب حسن الخاتمة وعلاماتها

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ شَرَّ مَا بُلِيَتْ بِهِ النُّفُوسُ الغَفْلَةُ عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.

وَبِسَبَبِ الغَفْلَةِ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ فَرَّطَ الكَثِيرُ في جَنْبِ اللهِ تعالى الكَرِيمِ، وَانْغَمَسُوا في الدُّنْيَا، وَاجْتَرَؤُوا عَلَى مَعْصِيَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَرُبَّمَا ـ لَا قَدَّرَ اللهُ تعالى ـ يُعَاقَبُونَ بِسُوءِ الخَاتِمَةِ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى.

يَا عِبَادَ اللهِ: الكَيِّسُ الحَازِمُ العَاقِلُ هُوَ الذي يَنْشُدُ حُسْنَ الخَاتِمَةِ، وَيَعْمَلُ لِسَاعَةِ الاحْتِضَارِ الحَاسِمَةِ، لِأَنَّا جَمِيعًا عَلَى يَقِينٍ أَنَّ المَوْتَ الذي نَفِرُّ مِنْهُ هُوَ مُلَاقِينَا؛ وَبَابُ المَوْتِ سَنَلِجُهُ جَمِيعًا، وَكَأْسُ المَنِيَّةِ سَنَحْتَسِيهِ إِنْ شِئْنَا وَإِنْ أَبَيْنَا.

الخَوْفُ كُلُّ الخَوْفِ أَنْ يُفَاجَأَ أَحَدُنَا بِالمَوْتِ وَهُوَ عَلَى مَعْصِيَةٍ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، الخَوْفُ كُلُّ الخَوْفِ مِنْ سُوءِ الخَاتِمَةِ، الخَوْفُ كُلُّ الخَوْفِ أَنْ يَمُوتَ أَحَدُنَا وَهُوَ مُرْتَكِبٌ الكَبَائِرَ بِدُونِ تَوْبَةٍ، وَهُوَ آكِلٌ لِأَمْوَالِ النَّاس بِغَيْرِ حَقٍّ، وَهُوَ ظَالِمٌ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ نَاصِرًا سِوَى اللهِ تعالى.

أَسْبَابُ حُسْنِ الخَاتِمَةِ وَعَلَامَاتُهَا:

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ أَسْبَابِ حُسْنِ الخَاتِمَةِ حُسْنُ السِّيرَةِ، وَصَفَاءُ السَّرِيرَةِ، وَأَنْ تَتَطَابَقَ الأَقْوَالُ مَعَ الأَفْعَالِ، وَأَنْ يَكُونَ العَبْدُ مُخْلِصًا للهِ عَزَّ وَجَلَّ في جَمِيعِ شُؤُونِهِ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾.

مِنْ أَسْبَابِ حُسْنِ الخَاتِمَةِ، لُقْمَةُ الحَلَالِ، مَعَ المُحَافَظَةِ عَلَى الفَرَائِضِ وَالوَاجِبَاتِ، وَكَثْرَةِ النَّوَافِلِ مَا اسْتَطَاعَ العَبْدُ إلى ذَلِكَ سَبِيلًا.

مِنْ أَسْبَابِ حُسْنِ الخَاتِمَةِ، كَثْرَةُ تِلَاوَةِ القُرْآنِ العَظِيمِ، وَكَثْرَةُ ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَصِلَةُ الأَرْحَامِ، وَبِرُّ الوَالِدَيْنِ، وَالإِحْسَانُ إلى النَّاسِ، مَعَ البُعْدِ عَنِ المُحَرَّمَاتِ، وَكَثْرَةِ الاسْتِغْفَارِ، وَمُلَازَمَةِ التَّوْبَةِ، وَكَثْرَةِ الدُّعَاءِ وَالإِلْحَاحِ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِطَلبِ حُسْنِ الخَاتِمَةِ، كَمَا فَعَلَ الأَنْبِيَاءُ وَالمُرْسَلُونَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكَمَا سَارَ سَيْرَهُمُ العُلَمَاءُ العَامِلُونَ.

مَا أَجْمَلَ حُسْنَ الخَاتِمَةِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: مَا أَجْمَلَ حُسْنَ الخَاتِمَةِ.

هَذَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ، تَقُولُ السَّيِّدَةُ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا: وَا كَرْبَ أَبَاهُ.

فَقَالَ لَهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ اليَوْمِ».

فَلَمَّا مَاتَ قَالَتْ: يَا أَبَتَاهُ، أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ، يَا أَبَتَاهُ، مَنْ جَنَّةُ الفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ، يَا أَبَتَاهُ إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهُ.

فَلَمَّا دُفِنَ، قَالَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ: يَا أَنَسُ، أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ التُّرَابَ. رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَرَوى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي، وَفِي يَوْمِي، وَبَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَكَانَتْ إِحْدَانَا تُعَوِّذُهُ بِدُعَاءٍ إِذَا مَرِضَ، فَذَهَبْتُ أُعَوِّذُهُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَقَالَ: «فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى، فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى».

وَجَاءَ في مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الصَّنْعَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا طُعِنَ عُمَرُ احْتَمَلْتُهُ أَنَا وَنَفَرٌ مِنَ الأَنْصَارِ، حَتَّى أَدْخَلْنَاهُ مَنْزِلَهُ، فَلَمْ يَزَلْ في غَشْيَةٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى أَسْفَرَ.

فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّكُمْ لَنْ تُفْزِعُوهُ بِشَيْءٍ إِلَّا بِالصَّلَاةِ.

قَالَ: فَقُلْنَا: الصَّلَاةَ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ.

قَالَ: فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ.

ثُمَّ قَالَ: أَصَلَّى النَّاسَ؟

قُلْنَا: نَعَمْ.

قَالَ: أَمَا إِنَّهُ لَا حَظَّ فِي الْإِسْلَامِ لِأَحَدٍ تَرَكَ الصَّلَاةَ، فَصَلَّى وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا.

وَجَاءَ في التَّبْصِرَةِ لِابْنِ الجَوْزِيِّ، قَالَ: لَمَّا طُعِنَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: لِتَهْنِكَ الجَنَّةُ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ.

قَالَ: غُرَّ بِهَذَا غَيْرِي يَا بْنَ عَبَّاسٍ.

قَالَ: وَلِمَ لَا أَقُولُ لَكَ هَذَا؟ فَوَاللهِ إِنْ كَانَ إِسْلَامُكَ لَعِزًّا، وَإِنْ كَانَتْ هِجْرَتُكَ لَفَتْحًا، وَإِنْ كَانَتْ وِلَايَتُكَ لَعَدْلًا، وَلَقَدْ قُتِلْتَ مَظْلُومًا.

فَقَالَ: تَشْهَدُ لِي بِذَلِكَ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟

فَكَأَنَّهُ تَلَكَّأَ؛ فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ جَانِبِهِ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، نَشْهَدُ لَكَ بِذَلِكَ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

وَجَاءَ في تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ: عَنِ اللَّيْثِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ حِينَ احْتُضِرَ قَالَ لِمَنْ عِنْدَهُ: اخْرُجُوا عَنِّي، فَإِنِّي أَرَى وُجُوهًا لَيْسَتْ بِوُجُوهِ جِنٍّ وَلَا إِنْسٍ.

فَخَرَجُوا، فَسَمِعُوهُ يَقُولُ: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: مَا أَجْمَلَ تِلْكَ اللَّحْظَةَ عِنْدَمَا يُكْرَمُ أَحَدُنَا بِحُسْنِ الخَاتِمَةِ، مَا أَجْمَلَ مَا يَقُولُهُ أَحَدُنَا عِنْدَ سَكَرَاتِ المَوْتِ: وَاطَرَبَاهُ، غَدًا أَلْقَى الأَحِبَّةَ، سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَصَحْبَهُ، مَا أَجْمَلَ العَبْدَ الذي يُكْرَمُ بِحُسْنِ الخَاتِمَةِ، وَالمَلَائِكَةُ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾.

مَا أَجْمَلَ العَبْدَ إِذَا قَالَ عِنْدَ نِهَايَةِ أَجَلِهِ: ﴿يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾.

اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ وَالأَبْصَارِ، ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ، وَأَكْرِمْنَا بِحُسْنِ الخَاتِمَةِ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 15/ شوال /1444هـ، الموافق: 5/ نيسان / 2023م