203ـ فوائد محاسبة النفس

كلمة شهر محرم 1445

203ـ فوائد محاسبة النفس

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: انْقَضَى عَامٌ هِجْرِيٌّ مِنْ حَيَاتِنَا، وَلَا نَدْرِي مَاذَا كَانَ في صَفَحَاتِ العَامِ المُنْصَرِمِ، هَلْ سَوَّدْنَا تِلْكَ الصَّفَحَاتِ بِسُوءِ أَعْمَالِنَا، أَمْ بَيَّضْنَاهَا بِصَالِحِ طَاعَاتِنَا وَقُرُبَاتِنَا؟

الحَقُّ يُقَالُ: نُفُوسُنَا سَرِيعَةُ التَّقَلُّبِ، مَيَّالَةٌ في كَثِيرٍ مِنَ الأَحْيَانِ إلى الشَّرِّ، كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وتعالى عَنْهَا: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾.

لِذَا كَانَ لِزَامًا عَلَى مَنْ آمَنَ بِالله ِتعالى وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُدَقِّقَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَنْ يُحَاسِبَهَا حِسَابًا عَسِيرًا، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، وَالعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَيَقُولُ الإِمَامُ الغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: اعْلَمْ أَنَّ العَبْدَ كَمَا يَكُونُ لَهُ وَقْتٌ في أَوَّلِ النَّهَارِ يُشَارِطُ فِيهِ نَفْسَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّوْصِيَةِ بِالحَقِّ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي آخِرِ النَّهَارِ سَاعَةٌ يُطَالِبُ فِيهَا النَّفْسَ وَيُحَاسِبُهَا عَلَى جَمِيعِ حَرَكَاتِهَا وَسَكَنَاتِهَا كَمَا يَفْعَلُ التُّجَّارُ فِي الدُّنْيَا مَعَ الشُّرَكَاءِ فِي آخِرِ كُلِّ سَنَةٍ أَوْ شَهْرٍ أَوْ يَوْمٍ، حِرْصًا مِنْهُمْ عَلَى الدُّنْيَا وَخَوْفًا مِنْ أَنْ يَفُوتَهُمْ مِنْهَا مَا لَوْ فَاتَهُمْ لَكَانَتِ الخِيَرَةُ لَهُمْ في فَوَاتِهِ.

فَكَيْفَ لَا يُحَاسِبُ العَاقِلُ نَفْسَهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ خَطَرُ الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ أَبَدَ الآبَادِ؟

مَا هَذِهِ المُسَاهَلَةُ إِلَّا عَنِ الغَفْلَةِ وَالخِذْلَانِ، وَقِلَّةِ التَّوْفِيقِ، نَعُوذُ بِاللهِ تعالى مِنْ ذَلِكَ.

فَوَائِدُ مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: غِيَابُ العَبْدِ عَنْ مُحَاسَبَةِ نَفْسِهِ نَذِيرُ خَطَرٍ عَلَيْهِ وَعَلَى المُجْتَمَعِ بِأَسْرِهِ، حَيْثُ يَبْقَى غَارِقًا في لُجَجٍ مِنْ بِحَارِ الفَسَادِ وَالتِّيهِ وَالضَّيَاعِ المُنْتَهِيَةِ إلى نَارٍ وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ.

مَنْ غَرِقَ في الغَفْلَةِ عَنْ مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ يَنْسَى وَيَغْفُلُ عَنْ حِسَابٍ مِنْ رَبٍّ قَاهِرٍ، مِنْ رَبٍّ عَظِيمٍ، لَا يَغْفُلُ عَمَّا يَفْعَلُ عَبْدُهُ، يَنْسَى قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ﴾. وَقَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾.

أَمَّا العَبْدُ الذي يُحَاسِبُ نَفْسَهُ، فَإِنَّهُ يَرَى ثِمَارَ هَذِهِ المُحَاسَبَةِ عَاجِلًا غَيْرَ آجِلٍ؛ فَمِنْ ثِمَارِ مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ:

أَوَّلًا: الاطِّلَاعُ عَلَى عُيُوبِ النَّفْسِ وَنَقَائِصِهَا وَمَثَالِبِهَا، وَمَنِ اطَّلَعَ عَلَى عُيُوبِ نَفْسِهِ أَنْزَلَهَا المَنْزِلَةَ الحَقِيقِيَّةِ، لَا سِيَّمَا إِنْ جَنَحَتْ إلى الكِبْرِ وَالغَطْرَسَةِ، وَمَا مِنْ شَكٍّ أَنَّ مَعْرِفَةَ العَبْدِ قَدْرَ نَفْسِهِ يُورثُهُ تَذَلُّلًا للهِ وَعُبُودِيَّةً عَظِيمَةً للهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَا يَمُنُّ بِخَيْرٍ إِنْ قَدَّمَهُ مَهْمَا عَظُمَ، وَلَا يَحْتَقِرُ ذَنْبَهُ مَهْمَا صَغُرَ.

يَقُولُ سَيِّدُنَا أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَا يَفْقَهُ الرَّجُلُ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى يَمْقُتَ النَّاسَ فِي جَنْبِ اللهِ ثُمَّ يَرْجِعَ إِلَى نَفْسِهِ فَيَكُونَ لَهَا أَشَدَّ مَقْتًا.

ثَانِيًا: بِمُحَاسَبَةِ النَّفْسِ وَالتَّدْقِيقِ عَلَيْهَا يَتَعَرَّفُ العَبْدُ عَلَى حَقِّ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَظِيمِ فَضْلِهِ وَمِنَّتِهِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا يُقَارِنُ نِعْمَةَ اللهِ تعالى عَلَيْهِ مَعَ تَفْرِيطِهِ في جَنْبِ اللهِ تعالى، فَيَكُونُ ذَلِكَ رَادِعًا لَهُ عَنْ فِعْلِ كُلِّ مَشِينٍ وَقَبِيحٍ.

وَعِنْدَ ذَلِكَ يَعْلَمُ أَنَّ النَّجَاةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِعَفْوِ اللهِ تعالى وَمَغْفِرَتِهِ وَرِضْوَانِهِ، وَيَتَيَقَّنُ أَنَّهُ مِنْ حَقِّ اللهِ تعالى أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَأَنْ يُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَأَنْ يُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ.

ثَالِثًا: مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ وَدَقَّقَ عَلَيْهَا وَطَهَّرَهَا مِنَ النَّقَائِصِ أَفْلَحَ وَفَازَ، قَالَ تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾.

وَيَقُولُ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: رَحِمَ اللهُ عَبْدًا قَالَ لِنَفْسِهِ النَّفِيسَةِ: أَلَسْتِ صَاحِبَةَ كَذَا؟ أَلَسْتِ صَاحِبَةَ كَذَا؟ ثُمَّ ذَمَّهَا ثُمَّ خَطَمَهَا، ثُمَّ أَلْزَمَهَا كِتَابَ اللهِ؛ فَكَانَ لَهَا قَائِدًا.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَعْظَمُ ضَرَرٍ يَقَعُ عَلَى العَبْدِ هُوَ تَرْكُهُ مُحَاسَبَةَ نَفْسِهِ، وَالاسْتِرْسَالُ مَعَ أَهْوَائِهَا وَشَهَوَاتِهَا، هَذَا الأَمْرُ يَقُودُهُ إلى الهَلَاكِ وَيُوقِعُهُ في العُجْبِ وَالغُرُورِ، وَيُهَوِّنُ عَلَيْهِ فِعْلَ المَعَاصِي وَالذُّنُوبِ، وَيُعَسِّرُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَطْمَ النَّفْسِ.

وَرَحِمَ اللهُ تعالى الإِمَامُ البُوصِيِرِيَّ القَائِلَ:

وَالنَّـفْـسُ كَالطِّـفْلِ إِنْ تُهْمِلْهُ شَـ ـبَّ عَلَى   ***   حُــبِّ الـــرَّضَاعِ وَإِنْ تَـــفْطِمْهُ يَــنْفَطِمِ

فَـــاحْـذَرْ هَــوَاهَـا وَحَــاذِرْ أَنْ تُـوَلِّيَهُ    ***   إِنَّ الهَـوَى مَـا تَـوَلَّى يُــعْـمِ أَو يُــــــصِمِ

وَرَاعِــهَا وَهِـــيَ في الأَعْـمَالِ سَــائِـمَةٌ    ***   وَإِنْ هِيَ اسْتَحْلَـــتِ المَـرْعَى فَلَا تُـــسِمِ

كَـمْ حَـسَّـنَـتْ لَـــذَّةٌ للــمَـرْءِ قَـــاتِلَةً    ***   مِنْ حَيْثُ لَمْ يَدْرِ أَنَّ السُّمَّ في الدَّسَــــــمِ

وَخَــالِفِ الــنَّفْسَ وَالشَّيْطَانَ وَاعْصِهِمَا    ***   وَإِنْ هُمَا مَحَّضَاكَ النُّصْحَ فَاتَّهِــــــــــــمِ

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُوَفِّقَنَا للتَّدْقِيقِ عَلَى أَنْفُسِنَا وَمُحَاسَبَتِهَا حِسَابًا عَسِيرًا، لَعَلَّنَا نَفُوزُ يَوْمَ القِيَامَةِ بِالحِسَابِ اليَسِيرِ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء : 1/محرم /1445هـ، الموافق: 19/تموز / 2023م