26ـ رحمته صلى الله عليه وسلم بمن أقيم عليه الحد

26ـ رحمته صلى الله عليه وسلم بمن أقيم عليه الحد

مقدمة الكلمة:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ مَظَاهِرِ رَحْمَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ يُقِيمُ الحَدَّ عَلَى مَنِ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً تَسْتَوْجِبُ حَدًّا مِنْ حُدُودِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَعَ ذَلِكَ يَكُونُ رَحِيمًا بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ غَايَةَ الرَّحْمَةِ، كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِإِقَامَةِ الحَدِّ، تَنْفِيذًا لِأَمْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في نَفْسِ الوَقْتِ في غَايَةِ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ عَلَى مَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الحَدُّ، فَلَا يَرْضَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُلْعَنَ ذَاكَ الإِنْسَانُ أَو يُسَبَّ، بَلْ عَلَى العَكْسِ مِنْ ذَلِكَ تَمَامًا، يَطْلُبُ الدُّعَاءَ لَهُ، بَلْ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَيَّنَ فَضْلَ مَنْ يُقَامُ عَلَيْهِ الحَدُّ، وَصَدَقَ في تَوْبَتِهِ، كَمَا في قِصَّةِ مَاعِزٍ وَالغَامِدِيَّةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

رَحْمَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِمَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الحَدُّ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ في قِصَّةِ سَيِّدِنَا مَاعِزٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، قَالَ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَزَنَيْتَ؟»

فَقَالَ: نَعَمْ؛ فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ.

فَكَانَ النَّاسُ فِيهِ فِرْقَتَيْنِ، قَائِلٌ يَقُولُ: لَقَدْ هَلَكَ، لَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: مَا تَوْبَةٌ أَفْضَلَ مِنْ تَوْبَةِ مَاعِزٍ؛ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: اقْتُلْنِي بِالْحِجَارَةِ.

قَالَ: فَلَبِثُوا بِذَلِكَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً.

ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ جُلُوسٌ، فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، فَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ».

قَالَ: فَقَالُوا: غَفَرَ اللهُ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ.

قَالَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ».

وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ كَذَلِكَ عَنِ المَرْأَةِ الغَامِدِيَّةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا، قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ بِهَا، فَحُفِرَ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا، وَأَمَرَ النَّاسَ فَرَجَمُوهَا، فَيُقْبِلُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ، فَرَمَى رَأْسَهَا فَتَنَضَّحَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ فَسَبَّهَا، فَسَمِعَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَبَّهُ إِيَّاهَا، فَقَالَ: «مَهْلًا يَا خَالِدُ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ» ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا، وَدُفِنَتْ.

وَفي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا: قَالَ لَهُ عُمَرُ: تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا نَبِيَّ اللهِ وَقَدْ زَنَتْ؟

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدْتَ تَوْبَةً أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا للهِ تَعَالَى؟».

وَرَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِسَكْرَانَ، فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ؛ فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِهِ.

فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ رَجُلٌ: مَا لَهُ أَخْزَاهُ اللهُ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ».

وَفي رِوَايَةٍ لَهُ كَذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقُولُوا هَكَذَا، لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ».

وَفي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَلَكِنْ قُولُوا: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ».

وَرَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ.

فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ؟

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَلْعَنُوهُ، فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذَا الذي أُقِيمَ عَلَيْهِ الحَدُّ هُوَ أَخٌ مُؤْمِنٌ زَلَّتْ قَدَمُهُ، وَاسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلَو لَمْ يَكُنْ أَضْعَفَ مِنَ الشَّيْطَانِ لَمَا وَقَعَ في حِبَالِهِ، وَالضَّعِيفُ يُقَامُ عَلَيْهِ الحَدُّ، وَلَكِنْ يُرْحَمُ لِضَعْفِهِ، حَتَّى لَا يَكُونَ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ الذي يَجُرُّهُ إلى النَّارِ.

وَيُضَافُ إلى هَذَا أَنَّ إِقَامَةَ الحَدِّ عَلَى مُرْتَكِبِ الجَرِيمَةِ هُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَلَا يُحَاسَبُ عَلَيْهَا ثَانِيَةً، بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الحَدُّ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللهُ فَهُوَ إِلَى اللهِ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ» رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الرَّحْمَةَ الرَّحْمَةَ بِأَنْفُسِنَا، وَبِالآخَرِينَ، وَخَاصَّةً بِالعُصَاةِ، وَهِيَ عُنْوَانٌ عَلَى مَحَبَّتِكُمْ للنَّاسِ، وَرَأْفَتِكُمْ بِهِمْ، وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ، وَبِمِقْدَارِ مَا تَرْحَمُونَ تُرْحَمُونُ.

اللَّهُمَّ لَا تَنْزِعِ الرَّحْمَةَ مِنْ قُلُوبِنَا. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 13/محرم /1445هـ، الموافق: 31/تموز / 2023م