33ـ أيام حراء

33ـ أيام حراء

أَيَّامُ حِرَاءٍ

مُنْذُ ضَمَّهَا البَيْتُ السَّعِيدُ قَامَتْ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا بِوَاجِبِهَا كَامِلًا نَحْوَ زَوْجِهَا الحَبِيبِ، فَمَلَأَتْ أَيَّامَهُ سَعَادَةً وَهَنَاءً، تَتَحَسَّسُ مَرَاضِيَهُ فَتُسَارِعُ إِلَيْهَا، وَتَجْعَلُ نَفْسَهَا وَمَالَهَا وَحَيَاتَهَا وَكُلَّ مَا تَمْلِكُ وَمَنْ تَمْلِكُ مَوْقُوفًا عَلَى رَاحَتِهِ، مَبْذُولًا في حُبِّهِ، فَلَا شَيْءَ عِنْدَهَا أَعَزُّ مِنْ بَسْمَةِ رِضًا تَرَاهَا تَرِفُّ عَلَى وَجْهِهِ الكَرِيمِ، وَلَا شَيْءَ مَهْمَا كَانَ إِلَّا وَهُوَ فِيمَا يَشَاؤُهُ مَبْسُوطٌ وَمَبْذُولٌ؛ وَانْظُرْ إِلَيْهَا حِينَ رَأَتْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَعْطِفُ عَلَى غُلَامِهَا زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَيُكْرِمُهُ، فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ العَبِيدِ، فَسَارَعَتْ تُقَدِّمُهُ إِلَيْهِ هَدِيَّةً، وَتَهَبُهُ لَهُ مِلْكًا خَاصًّا.

وَتَأَمَّلْ في وُدِّهَا وَرِعَايَتِهَا لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ في بَيْتِهَا كَأَنَّهُ أَحَدُ أَبْنَائِهَا، حِينَ أَحْضَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِيَكْفُلَهُ تَخْفِيفًا عَنْ أَبِي طَالِبٍ لَمَّا اشْتَدَّتِ عَلَيْهِ السِّنُونُ وَضَاقَتْ بِهِ الحَالُ.

وَانْظُرْ إلى مَالِهَا تَبْسُطُ يَدَهُ فِيهِ، لَا تُرَاجِعُهُ في أَمْرٍ، وَلَا تَرُدُّهُ عَمَّا يَشَاءُ.

وَانْظُرْ إلى إِكْرَامِهَا لِكُلِّ مَنْ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِهِ صِلَةٌ، أَو لَهُ عِنْدَهُ يَدٌ أَو مَكْرُمَةٌ، وَيَوْمَ حُبِّبَتْ إِلَيْهِ الخَلْوَةُ، وَصَارَ يَتَّجِهُ إلى غَارِ حِرَاءٍ، يَعْتَكِفُ مُتَأَمِّلًا، وَيَتَعَبَّدُ مُتَبَتِّلًا، لَمْ تُعَاتِبْهُ عَلَى غِيَابٍ، وَلَمْ تَسْأَلْهُ عَنْ ذَهَابٍ أَو إِيَابٍ، وَلَمْ يَكُنْ مَوْقِفُهَا في هَذَا مَوْقِفَ الرَّاضِي المُسْتَسْلِمِ وَحَسْبُ، وَإِنَّمَا كَانَ مَوْقِفُهَا مَوْقِفَ المُعِينِ المُدَعِّمِ، تُجَهِّزُ لَهُ وَتُعِدُّ مَا يَحْتَاجُهُ في خَلْوَتِهِ تِلْكَ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَمِهَادٍ، تُجَهِّزُهُ قَبْلَ خُرُوجِهِ، وَتَحْمِلُ إِلَيْهِ إِنْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ فَوْقَ مَا يَكْفِيهِ مَا حَمَلَهُ مَعَهُ، وَتُرْسِلُ إِلَيْهِ إِنْ تَأَخَّرَ، بَلْ وَتَحْمِلُهُ بِنَفْسِهَا إلى مُتَعَبَّدِهِ البَعِيدِ في حِرَاءٍ، وَالذي لَا يَقِلُّ بُعْدُهُ عَنْ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، تَصْعَدُ بَعْدَهَا الجَبَلَ الشَّاهِقَ إلى ذِرْوَتِهِ، حَيْثُ الغَارُ قَائِمٌ إلى اليَوْمِ، يُجْهِدُ الفَتَى الصَّاعِدَ إِلَيْهِ، فَمَا بَالُكَ بِهَا؟

وَفي بَعْضِ الأَحْيَانِ كَانَتْ تَصْحَبُهُ في خَلْوَتِهِ هَذِهِ، تَخْدُمُهُ وَتُؤْنِسُهُ، وَتَسْقِيهِ وَتُطْعِمُهُ، وَتَشُدُّ عَزْمَهُ فِيمَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِ مِنْ نُسُكٍ وَتَأَمُّلٍ.

وَكَثِيرًا مَا وَافَاهَا صَاعِدَةً إِلَيْهِ، فَتَلَقَّاهَا في السَّفْحِ، وَبَاتَا مَعًا في شِعْبٍ قَرِيبٍ مِنَ الجَبَلِ، وَيُسَمَّى مَكَانُهُ الآنَ بِمَسْجِدِ الإِجَابَةِ.

وَكَثِيرًا مَا كَانَتْ تَصْعَدُ إِلَيْهِ في غَارِ حِرَاءٍ، فَلَا تَجِدُهُ أَحْيَانًا، فَتَبْحَثُ هُنَا وَهُنَاكَ حَوْلَ الغَارِ، فَإِذَا أَعْيَتْ بَثَّتْ في الجَبَلِ وَمَنْ حَوْلَهُ مَنْ يَنْشُدُهُ، حَتَّى تَطْمَئِنَّ وَتُوقِنَ بِأَنَّهُ سَالِمٌ مَوْفُورٌ، فَيَجِدُونَهُ في بَعْضِ الشِّعَابِ أَو عَلَى سَفْحِ الجَبَلِ مُتَأَمِّلًا شَاخِصًا، فَيَعُودُونَ إِلَيْهَا مُبَشِّرِينَ بِسَلَامَتِهِ.

وَكَانَتْ أَيَّامُ خَلْوَتِهِ هَذِهِ تَطُولُ وَتَقْصُرُ ـ حَسَبَ الحَالِ ـ فَرُبَّمَا نَفَدَ زَادُهُ سَرِيعًا إِذَا غَشِيَهُ بَعْضُ العَابِرِينَ بِالجَبَلِ فَيُطْعِمُهُمْ، فَيَعُودُ سَرِيعًا لِيَتَزَوَّدَ مَرَّةً أُخْرَى.

فَيَكُونُ مُكْثُهُ أَحْيَانًا بِضْعَةَ أَيَّامٍ قَدْ تُكْمِلُ عَشْرًا، وَقَدْ تَزِيدُ حَتَّى تَبْلُغَ شَهْرًا، خَاصَّةً في رَمَضَانَ الذي كَانَ كَثِيرًا مَا يُتِمُّهُ في خَلْوَتِهِ، يَطْعَمُ الخُبْزَ، وَيَأْتَدِمُ الزَّيْتَ، حَتَّى جَاءَهُ الوَحْيُ.

وَفي أَيَّامِهِ التي يَنْزِلُ فِيهَا مِنْ حِرَاءٍ، كَانَ يَسْعَى كَشَأْنِ الرَّجُلِ في مَكَّةَ مُتَاجِرًا، وَقَدْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ في الجَاهِلِيَّةِ يُسَمَّى أَبَا السَّائِبِ ـ صَيْفِيَّ بْنَ أَبِي السَّائِبِ ـ وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَيْهِ يَوْمَ الفَتْحِ فَتَلَقَّاهُ بِالبِشْرِ قَائِلًا: مَرْحَبًا بِأَخِي وَشَرِيكِي، وَمَدَحَهُ قَائِلًا عَنْهُ: كَانَ لَا يُدَاجِي (أَيْ: لَا يُرَائِي) وَلَا يُمَارِي، وإِنْ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَلَكِنَّ شِرَاءَهُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ بَيْعِهِ، وَبَعْدَ الهِجْرَةِ لَمْ يَبِعْ إِلَّا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا شِرَاؤُهُ بَعْدَهَا فَكَثِيرٌ.

وَلَمَّا أَصْبَحَ في عَقْدِهِ الرَّابِعِ بَدَأَتْ تَظْهَرُ لَهُ المُبَشِّرَاتُ، يَسْمَعُهَا أَو يَرَاهَا، يَقَظَةً أَو مَنَامًا، مِثْلَ سَمَاعِهِ نِدَاءً يَأْمُرُهُ بِسَتْرِ عَوْرَتِهِ حِينَ كَانَ يَحْمِلُ الأَحْجَارَ مِنْ أَجْيَادَ لِبِنَاءِ الكَعْبَةِ، وَمِثْلَ تَسْلِيمِ الحَجَرِ وَالشَّجَرِ عَلَيْهِ، وَفي هَذَا يَقُولُ البُوصِيرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى:

وَالجَمَادَاتُ أَفْصَحَتْ بِالذي   ***   أُخْرِسَ عَنْهُ لِأَحْمَدَ الفُصَحَاءُ

وَيَقُولُ السَّبْكِيُّ في تَائِيَّتِهِ:

وَمَا جُزْتَ بِالأَحْجَارِ إِلَّا وَسَلَّمَتْ   ***   عَلَيْكَ بِنُطْقِ شَاهِدٍ قَبْلَ بِعْثَةِ

فَكَانَتْ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا إِذَا سَمِعَتْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا زَادَ يَقِينُهَا فِيمَا ظَنَّتْهُ يَوْمَ اخْتَارَتْهُ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ زَوْجًا، وَتَأَكَّدَ لَدَيْهَا مَا تَوَقَّعَتْهُ مِنْ أَنَّهُ نَبِيُّ آخِرِ الزَّمَانِ المُنْتَظَرِ.

وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِخَدِيجَةَ: «إِذَا خَلَوْتُ سَمِعْتُ نِدَاءً أَنْ يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ» وَفِي رِوَايَةٍ «أَرَى نُورًا (أَيْ: يَقَظَةً لَا منَامًا) وَأَسْمَعُ صَوْتًا وَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ وَاللهِ لِهَذَا أَمْرٌ».

فَقَالَتْ: كَلَّا يَا بْنَ عَمِّ، مَا كَانَ اللهُ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ بِكَ، فَوَاللهِ إِنَّكَ لَتُؤَدِّي الأَمَانَةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الحَدِيثَ.

وَرُوِيَ أَنَّ إِسْرَافِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَيَحْمِلُ لَهُ الوَحْيَ، وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ، مَا عَدَا القُرْآنَ، فَالقُرْآنُ نَزَلَ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ فَقَطْ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَحَدِيثُ بَدْءِ الوَحْيِ في صَحِيحِ الإِمَامِ البُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلَاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ ـ وَهُوَ التَّعَبُّدُ ـ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ المَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ».

قَالَ: «فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ﴾.

فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، فَقَالَ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي» فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الخَبَرَ: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي».

وَهُنَا تَقِفُ العُقُولُ في عَجَبٍ مِنْ يَقِينِ هَذِهِ المَرْأَةِ الفَذَّةِ وَجَوَابِهَا لِزَوْجِهَا في هَذَا المَوْقِفِ الذي يُزَلْزِلُ صَنَادِيدَ الرِّجَالِ، وَيَبْعَثُ أَوَّلَ مَا يَبْعَثُ في أَيِّ امْرَأَةٍ سِوَاهَا الخَوْفَ وَالجَزَعَ.

وَلَكِنَّهَا خَدِيجَةُ الحَازِمَةُ المُتَطَلِّعَةُ إلى نَبَأِ الغَيْبِ، المُتَشَوِّقَةُ إلى أَمَلِهَا في أَنْ يَكُونَ زَوْجُهَا الحَبِيبُ صَاحِبَ البُشْرَى، وَمَوْئِلَ النُّبُوَّةِ، وَمَقْصِدَ الوَحْيِ مِنَ السَّمَاءِ، فَكَانَ جَوَابُهَا الذي رَوَتْهُ كُتُبُ السِّيَرِ وَأَثْبَتَهُ أَهْلُ الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ، كَانَ جَوَابُهَا الذي صَبَّ في وُجْدَانِهِ السَّكِينَةَ، وَغَشَاهُ وَهِيَ تُدَثِّرُهُ وَتَضُمُّهُ إِلَيْهَا بِالطُّمَأْنِينَةِ: كَلَّا وَاللهِ مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ.

فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ ابْنَ عَمِّهَا، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ في الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: أَيِ ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ.

فَقَالَ وَرَقَةُ: ابْنَ أَخِي، مَاذَا تَرَى؟

فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا رَأَى.

فَقَالَ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟».

فَقَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا.

ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الوَحْيُ.

وَرَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ، قَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ﴾.

قُلْتُ: يَقُولُونَ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾.

فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ ذَلِكَ، وَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ الَّذِي قُلْتَ: فَقَالَ جَابِرٌ: لَا أُحَدِّثُكَ إِلَّا مَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي هَبَطْتُ فَنُودِيتُ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ عَنْ شِمَالِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ أَمَامِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ خَلْفِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ شَيْئًا (وفي رِوَايَةٍ: فَإِذَا المَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَرُعِبْتُ مِنْهُ) فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا».

قَالَ: «فَدَثَّرُونِي وَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا».

قَالَ: فَنَزَلَتْ: ﴿يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾.

وَوَاكَبَتْ خَدِيجَةُ الوَحْيَ قُرْآنًا وَتَكْلِيفًا مُنْذُ نُزُولِهِ، فَحِينَ عَلَّمَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ، قَبْلَ فَرْضِهَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ، صَلَّتْ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا مَعَهُ في نَفْسِ اليَوْمِ، كَمَا أَوْرَدَ أَهْلُ السِّيَرِ، فَكَانَتْ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ.

يَقُولُ العَلَّامَةُ الدَّحْلَانُ في سِيرَتِهِ: وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّ جِبْرِيلَ تَبَدَّى لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في أَحْسَنِ صُورَةٍ وَأَطْيَبِ رَائِحَةٍ ـ وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ، وَفي رِوَايَةٍ: بِجَبَلِ حِرَاءٍ ـ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ لَكَ: أَنْتَ رَسُولِي إلى الجِنِّ وَالإِنْسِ، فَادْعُهُمْ إلى قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، ثُمَّ ضَرَبَ بِرِجْلِهِ الأَرْضَ فَنَبَعَتْ عَيْنُ مَاءٍ، فَتَوَضَّأَ مِنْهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، لِيُرِيَهُ كَيْفِيَّةَ الطُّهُورِ للصَّلَاةِ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ كَمَا رَآهُ يَتَوَضَّأُ، ثُمَّ قَامَ جِبْرِيلُ يُصَلِّي مُسْتَقْبِلًا الكَعْبَةَ وَأَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَهُ، ثُمَّ عَرَجَ إلى السَّمَاءِ وَرَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى أَهْلِهِ، فَكَانَ لَا يَمُرُّ بِحَجَرٍ وَلَا مَدَرٍ وَلَا شَجَرٍ إِلَّا وَهُوَ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَسَارَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فَأَخْبَرَهَا، فَغُشِيَ عَلَيْهَا مِنَ الفَرَحِ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهَا، وَأَتَى بِهَا إلى زَمْزَمَ فَتَوَضَّأَ لِيُرِيَهَا الوُضُوءَ، ثُمَّ أَمَرَهَا فَتَوَضَّأَتْ وَصَلَّى بِهَا، كَمَا صَلَّى بِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهِيَ بِهَذَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ، وَأَوَّلُ مَنْ ثَبَتَ، وَأَوَّلُ مَنْ تَوَضَّأَ، وَأَوَّلُ مَنْ صَلَّى.

قَالَ في المَوَاهِبِ اللَّدُّنِيَّةِ: أَوَّلُ مَنْ آمَنَ، وَصَدَّقَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، صِدِّيقَةُ النِّسَاءِ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، فَقَامَتْ بِأَعْبَاءِ الصِّدِّيقِيَّةِ، وَكَانَتْ تَقُولُ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: أَبْشِرْ، فَوَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، وَاسْتَدَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ بِمَا فِيهِ مِنَ الصِّفَاتِ الحَمِيدَةِ، كَقِرَى الضَّيْفِ، وَحَمْلِ الكَلِّ، وَعَرَفَتْ أَنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَا يُخْزَى أَبَدًا، وَهُوَ مِنْ بَدِيعِ عِلْمِهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.

وَلَمَّا اسْتَعْلَنَ بِالرِّسَالَةِ، وَأَعْرَضَتْ قُرَيْشٌ عَنِ الإِيمَانِ، وَكَذَّبَتْهُ وَآذَتْهُ بِالقَوْلِ وَالفِعْلِ، وَجَاهَرَتْ في عِدَائِهِ، وَتَعْذِيبِ أَصْحَابِهِ، كَانَتْ خَدِيجَةُ المُوَاسِيَةُ الرَّؤُومُ خَيْرَ مَنْ يُخَفِّفُ عَنْهُ أَلَمَهُ، وَيُهَوِّنُ عَلَيْهِ أَمْرَهُمْ وَمَا يَكْرَهُهُ مِنْهُمْ.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 23/ محرم /1445هـ، الموافق: 10/آب / 2023م