20ـ الشاة المسمومة

20ـ الشاة المسمومة

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنَ المُعْجِزَاتِ التي أَيَّدَ بِهَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، سَلَامَتُهُ مِنَ السُّمِّ المُهْلِكِ لِغَيْرِهِ، وَإِعْلَامُ اللهِ تعالى لَهُ أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ، وَكَلَامُ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الشَّاةِ المَسْمُومَةِ.

رَوَى أَبُو دَاوُدَ في سُنَنِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ.

حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَنْ خَالِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ؛ فَأَهْدَتْ لَهُ يَهُودِيَّةٌ بِخَيْبَرَ شَاةً مَصْلِيَّةً (مَشْوِيَّةً) سَمَّتْهَا، فَأَكَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا وَأَكَلَ الْقَوْمُ.

فَقَالَ: «ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ، فَإِنَّهَا أَخْبَرَتْنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ».

فَمَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ الْأَنْصَارِيُّ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ: «مَا حَمَلَكِ عَلَى الَّذِي صَنَعْتِ؟».

قَالَتْ: إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ الَّذِي صَنَعْتُ، وَإِنْ كُنْتَ مَلِكًا أَرَحْتُ النَّاسَ مِنْكَ، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقُتِلَتْ.

ثُمَّ قَالَ فِي وَجَعِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: «مَازِلْتُ أَجِدُ مِنَ الْأَكْلَةِ الَّتِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ فَهَذَا أَوَانُ قَطَعَتْ أَبْهَرِي (هُوَ الشِّرْيَانُ الرَّئِيسِيُّ الذي يَخْرُجُ مِنَ البُطَيْنِ الأَيْسَرِ، فَيُوَزِّعُ الدَّمَ عَلَى سَائِرِ البَدَنِ)».

وَفي رِوَايَةٍ لأَبِي دَاوُدَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: كَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يُحَدِّثُ أَنَّ يَهُودِيَّةً مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ سَمَّتْ شَاةً مَصْلِيَّةً، ثُمَّ أَهْدَتْهَا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذِّرَاعَ، فَأَكَلَ مِنْهَا، وَأَكَلَ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِهِ مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ».

وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ فَدَعَاهَا، فَقَالَ لَهَا: «أَسَمَمْتِ هَذِهِ الشَّاةَ»؟

قَالَتِ الْيَهُودِيَّةُ: مَنْ أَخْبَرَكَ؟

قَالَ: «أَخْبَرَتْنِي هَذِهِ فِي يَدِي» لِلذِّرَاعِ.

قَالَتْ: نَعَمْ.

قَالَ «فَمَا أَرَدْتِ إِلَى ذَلِكَ؟».

قَالَتْ: قُلْتُ: إِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَنْ يَضُرَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا اسْتَرَحْنَا مِنْهُ، فَعَفَا عَنْهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُعَاقِبْهَا.

وَتُوُفِّيَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ أَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ، وَاحْتَجَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى كَاهِلِهِ مِنْ أَجْلِ الَّذِي أَكَلَ مِنَ الشَّاةِ، حَجَمَهُ أَبُو هِنْدٍ بِالْقَرْنِ وَالشَّفْرَةِ، وَهُوَ مَوْلًى لِبَنِي بَيَاضَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ.

وَفي رِوَايَةٍ للإِمَامِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً أَتَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ؟

فَقَالَتْ: أَرَدْتُ لِأَقْتُلَكَ.

قَالَ: «مَا كَانَ اللهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَى ذَاكِ» قَالَ: ـ أَوْ قَالَ ـ: «عَلَيَّ».

قَالَ: قَالُوا: أَلَا نَقْتُلُهَا؟

قَالَ: «لَا».

قَالَ: فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. (لَهَوَاتٌ: جَمْعُ لُهَاةٍ هِيَ اللَّحْمَةُ الحَمْرَاءُ المُعَلَّقَةُ في أَصْلِ الحَنَكِ).

وَفي رِوَايَةٍ للطَّبَرَانِيِّ في الكَبِيرِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً أَهْدَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ شَاةً مَصْلِيَّةً بِخَيْبَرَ، فَقَالَ لَهَا: «مَا هَذِهِ؟».

قَالَتْ: هَدِيَّةٌ، وَحَذِرَتْ أَنْ تَقُولَ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَأَكَلَ وَأَكَلَ أَصْحَابُهُ.

ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «أَمْسِكُوا».

ثُمَّ قَالَ لِلْمَرْأَةِ: «هَلْ سَمَمْتِ هَذِهِ الشَّاةَ؟».

قَالَتْ: مَنْ أَخْبَرَكَ؟

قَالَ: «هَذَا الْعَظْمُ» لِسَاقِهَا أَوْ هُوَ فِي يَدَهِ.

قَالَتْ: نَعَمْ.

قَالَ: «لِمَ؟».

قَالَتْ: قُلْتُ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا أَنْ يَسْتَرِيحَ النَّاسُ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ.

فَاحْتَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْكَاهِلِ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَاحْتَجَمُوا، فَمَاتَ بَعْضُهُمْ.

قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَأَسْلَمَتِ الْمَرْأَةُ، فَذَكَرُوا أَنَّهُ قَتَلَهَا.

وَجَاءَ في سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ: أَهْدَتْ لَهُ زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ، امْرَأَةُ سَلَّامِ بْنِ مِشْكَمٍ، شَاةً مَصْلِيَّةً، وَقَدْ سَأَلَتْ أَيُّ عُضْوٍ مِنْ الشَّاةِ أَحَبُّ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

فَقِيلَ لَهَا: الذِّرَاعُ، فَأَكْثَرَتْ فِيهَا مِنْ السُّمِّ، ثُمَّ سَمَّتْ سَائِرَ الشَّاةِ، ثُمَّ جَاءَتْ بِهَا، فَلَمَّا وَضَعَتْهَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، تَنَاوَلَ الذِّرَاعَ، فَلَاكَ مِنْهَا مُضْغَةً، فَلَمْ يُسِغْهَا، وَمَعَهُ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ، قَدْ أَخَذَ مِنْهَا كَمَا أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا بِشْرٌ فَأَسَاغَهَا، وَأَمَّا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَلَفَظَهَا، ثُمَّ قَالَ: «إنَّ هَذَا الْعَظْمَ لَيُخْبِرُنِي أَنَّهُ مَسْمُومٌ».

ثُمَّ دَعَا بِهَا، فَاعْتَرَفَتْ، فَقَالَ: «مَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكِ؟».

قَالَ: بَلَغْتَ مِنْ قَوْمِي مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ، فَقُلْتُ: إنْ كَانَ مَلِكًا اسْتَرَحْتُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا فَسَيُخْبَرُ.

قَالَ: فَتَجَاوَزَ عَنْهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَمَاتَ بِشْرٌ مِنْ أَكْلَتِهِ الَّتِي أَكَلَ.

ثُـمَّ سَـمَّتْ لَهُ الْيَهُودِيَةُ الشَّا   ***   ةَ وَكَمْ سَامَ الشِّقْوَةَ الأَشْقِـيَاءُ

فَأَذَاعَ الـذِّرَاعُ مَا فِيهِ مِنْ سُ    ***   مٍّ بِــنُطْقٍ إِخْــفَاؤُهُ إِبْــــدَاءُ

وَبِخُلْقٍ مِـنَ النَّبِيِّ كَـرِيمٍ لَـمْ  ***   تُقَاصَصْ بِجَرْحِهَا الْعَجْمَـاءُ

مَا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ:

أَوَّلًا: عَدَاوَةُ اليَهُودِ عَدَاوَةٌ دِينِيَّةٌ بَحْتَةٌ، يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾. فَهَذِهِ الآيَةُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُكَذِّبَهَا أَو يُنْكِرَهَا، فَهُمْ قَتَلَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَقَالَ تعالى في حَقِّهِمْ: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾. لَمْ تَجْتَمِعْ هَذِهِ الصِّفَاتُ المَذْمُومَةُ إِلَّا في اليَهُودِ ـ قَاتَلَهُمُ اللهُ تعالى ـ أَوْصَافٌ دَنِيئَةٌ، وَعَاقِبَةٌ فَظِيعَةٌ.

وَمِنْ أَوْصَافِهِمُ الدَّنِيئَةِ، مَا قَالَ اللهُ تعالى عَنْهُمْ: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾.

وَمِنْ أَوْصَافِهِمُ الدَّنِيئَةِ، مَا قَالَهُ تعالى عَنْهُمْ: ﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا﴾. هُمْ يَسْعَوْنَ في نَشْرِ الفَسَادِ بِكُلِّ أَنْوَاعِهِ في الأَرْضِ التي خَلَقَهَا اللهُ تعالى، وَخَلَقَ مَنْ عَلَيْهَا لِتُعْمَرَ بِشَرْعِ اللهِ، وَلِتُحْكَمَ بِحُكْمِ اللهِ تعالى، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾.

وَمِنْ أَوْصَافِهِمُ الدَّنِيئَةِ نَقْضُهُمْ للعُهُودِ، وَهَذِهِ صِفَةٌ مُتَأَصِّلَةٌ فِيهِمْ وَفي طَيَّاتِ نُفُوسِهِمْ، يَتَوَارَثُونَهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، وَأَبًا عَنْ جَدٍّ، فَهَلْ تَطْمَعُ الأُمَّةُ في وُدِّهِمُ اليَوْم، أَو مُسَالَمَتِهِمْ؟

أَرَادُوا قَتْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِدَّةَ مَرَّاتٍ:

المَرَّةُ الأُولَى: عِنْدَمَا كَانَ صَغِيرَ السِّنِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، رَوَى ابْنُ سَعْدٍ في الطَّبَقَاتِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ أُمَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَفَعَتْهُ إِلَى السَّعْدِيَّةِ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ قَالَتْ لَهَا: احْفَظِي ابْنِي، وَأَخْبَرَتْهَا بِمَا رَأَتْ، فَمَرَّ بِهَا الْيَهُودُ، فَقَالَتْ: أَلَا تُحَدِّثُونِي عَنِ ابْنِي هَذَا فَإِنِّي حَمَلْتُهُ كَذَا، وَوَضَعْتُهُ كَذَا، وَرَأَيْتُ كَذَا كَمَا وَصَفَتْ أُمُّهُ؟

قَالَ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اقْتُلُوهُ.

فَقَالُوا: أَيَتِيمٌ هُوَ؟

فَقَالَتْ: لَا، هَذَا أَبُوهُ، وَأَنَا أُمُّهُ.

فَقَالُوا: لَوْ كَانَ يَتِيمًا لَقَتَلْنَاهُ.

قَالَ: فَذَهَبَتْ بِهِ حَلِيمَةُ وَقَالَتْ: كِدْتُ أُخَرِّبُ أَمَانَتِي.

المُتَأَمِّلُ لِتَارِيخِ اليَهُودِ، وَالمُتَتَبِّعُ للأَحْدَاثِ التَّارِيخِيَّةِ، يَجِدُ أَنَّ الغَدْرَ مِنْ أَبْرَزِ الصِّفَاتِ التي اتَّصَفَتْ بِهَا الأُمَّةُ اليَهُودِيَّةُ، فَقَدِ اشْتَهَرُوا بِالغَدْرِ وَالخِيَانَةِ لِكُلِّ مَنْ يُخَالِفُهُمْ، وَلَا سِيَّمَا مِنَ المُسْلِمِينَ، فَهُمْ بِالغَدْرِ فِيهِمْ أَشْهَرُ مِنْ نَارٍ عَلَى عَلَمٍ.

وَالقُرْآنُ الكَرِيمُ بَيَّنَ لَنَا حَقِيقَةَ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَسَرَدَ لَنَا الأَحْدَاثَ التي تُبَيِّنُ تَجَذُّرَ هَذِهِ الصِّفَةِ القَبِيحَةِ فِيهِمْ.

وَقَدْ سَجَّلَ التَّارِيخُ طَرَفًا مِنْ غَدْرِ اليَهُودِ عَبْرَ تَارِيخِهِمُ المُظْلِمِ المَلِيءِ بِالصَّفَحَاتِ السَّوْدَاءِ مُنْذُ فَجْرِ الإِسْلَامِ، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ غَدَرَ مِنْهُمْ بَنُو قَيْنُقَاعٍ عِنْدَمَا اعْتَدَوْا عَلَى حِجَابِ امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ في سُوقِهِمْ، جَاءَ في سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ: كَانَ مِنْ أَمْرِ بَنِي قَيْنُقَاعَ أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الْعَرَبِ قَدِمَتْ بِجَلَبٍ (كُلُّ مَا يُجْلَبُ للأَسْوَاقِ لِيُبَاعَ فِيهَا) لَهَا، فَبَاعَتْهُ بِسُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَجَلَسَتْ إلَى صَائِغٍ بِهَا، فَجَعَلُوا يُرِيدُونَهَا عَلَى كَشْفِ وَجْهِهَا، فَأَبَتْ، فَعَمِدَ الصَّائِغُ إلَى طَرَفِ ثَوْبِهَا فَعَقَدَهُ إلَى ظَهْرِهَا، فَلَمَّا قَامَتْ انْكَشَفَتْ سَوْأَتُهَا، فَضَحِكُوا بِهَا، فَصَاحَتْ؛ فَوَثَبَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصَّائِغِ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ يَهُودِيًّا، وَشَدَّتِ الْيَهُودُ عَلَى الْمُسْلِمِ فَقَتَلُوهُ، فَاسْتَصْرَخَ أَهْلُ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْيَهُودِ، فَغَضِبَ الْمُسْلِمُونَ، فَوَقَعَ الشَّرُّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي قَيْنُقَاعَ.

إِنَّ غَدْرَ اليَهُودِ وَخِيَانَاتِهِمُ الجَلِيَّةَ الوَاضِحَةَ حَتَّى مَعَ مَنْ حَالَفُوهُمْ وَوَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ مَعَهُمْ، وَقَدْ دَلَّنَا عَلَى ذَلِكَ كِتَابُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.

مَاذَا جَرَى لِهَذِهِ الأُمَّةِ؟ هَلْ تَفْقِدُ ذَاكِرَتَهَا وَتَجْلِسُ مَعَ عَدُوِّهَا تَبْحَثُ عَنْ سَلَامٍ وَعُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ؟

يَذْبَحُهَا عَدُوُّهَا بِالأَمْسِ، فَتَمُدُّ لَهُ ذِرَاعَ المُصَافَحَةِ اليَوْمَ.

يَصْفَعُهَا بِالأَمْسِ، وَتُدِيرُ لَهُ خَدَّهَا الآخَرَ تَظُنُّ أَنَّهُ سَيُقَبِّلُهَا، يَكْذِبُ عَلَيْهَا أَلْفَ مَرَّةٍ وَلَا تَزَالُ تَرْجُو أَنْ يَصْدُقُ.

يَخُونُ لَهَا أَلْفَ مِيثَاقٍ، وَلَا تَزَالُ تَثِقُ بِمَوَاعِيدِهِ، يَخْدَعُهَا أَلْفَ مَرَّةٍ وَلَا تَزَالُ قَابِلَةً لِأَنْ تُخْدَعَ.

أَيْنَ هَذِهِ الأُمَّةُ مِنْ هَدْيِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ لَمَّا أُسِرَ أَبُو عَزَّةَ الجُمَحِيُّ، وَكَانَ شَاعِرًا قَدْ هَجَا المُسْلِمِينَ وَآذَاهُمْ، فَتَقَدَّمَ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَعْطَفَهُ لِيُطْلِقَ سَرَاحَهُ شَاكِيًا فَقْرَهُ، يَا مُحَمَّدُ، إِنَّمَا أُخْرِجْتُ كَرْهًا وَلِي بَنَاتٌ فَامْنُنْ عَلَيَّ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ مَا أَعْطَيْتَنِي مِنَ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ؟ لَا وَاللهِ لَا تَمْسَحُ عَارِضَيْكَ بِمَكَّةَ، تَقُولُ: سَخِرْتُ بِمُحَمَّدٍ مَرَّتَيْنِ».

قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُلْدَغُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ، يَا عَاصِمُ، بْنَ ثَابِتٍ قَدِّمْهُ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ» فَقَدَّمَهُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ.

هَكَذَا تَكُونُ الأُمَّةُ الوَاعِيَةُ اليَقِظَةُ، لَا يَخْدَعُهَا عَدُوُّهَا مَرَّتَيْنِ، وَلَا تُلْدَغُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ.

فَمَا لَنَا اليَوْمَ؟ مَا لَنَا لَا تَعِظُنَا أَحْدَاثُ التَّارِيخِ وَتَقَلُّبَاتُ الأَيَّامِ؟

كَمْ مَرَّةً عَضَّ اليَهُودُ يَدًا امْتَدَّتْ إِلَيْهِمْ بِالسَّلَامِ؟

كَمْ مَرَّةً نَقَضَ اليَهُودُ عُهُودًا أَبْرَمُوهَا، وَمَوَاثِيقَ عَقَدُوهَا؟

أَلَمْ يَغْدِرُوا بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَسْمَعْ إلى هَذَا الحَدِيثِ، وَهَذِهِ هِيَ المَرَّةُ الثَّانِيَةُ التي حَاوَلُوا فِيهَا قَتْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ، رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَجُلٍ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ كَتَبُوا إِلَى ابْنِ أُبَيٍّ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ مَعَهُ الْأَوْثَانَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ: إِنَّكُمْ آوَيْتُمْ صَاحِبَنَا، وَإِنَّا نُقْسِمُ بِاللهِ لَتُقَاتِلُنَّهُ، أَوْ لَتُخْرِجُنَّهُ أَوْ لَنَسِيرَنَّ إِلَيْكُمْ بِأَجْمَعِنَا حَتَّى نَقْتُلَ مُقَاتِلَتَكُمْ، وَنَسْتَبِيحَ نِسَاءَكُمْ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، اجْتَمَعُوا لِقِتَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَقِيَهُمْ، فَقَالَ: «لَقَدْ بَلَغَ وَعِيدُ قُرَيْشٍ مِنْكُمُ الْمَبَالِغَ، مَا كَانَتْ تَكِيدُكُمْ بِأَكْثَرَ مِمَّا تُرِيدُونَ أَنْ تَكِيدُوا بِهِ أَنْفُسَكُمْ، تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا أَبْنَاءَكُمْ، وَإِخْوَانَكُمْ».

فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَفَرَّقُوا، فَبَلَغَ ذَلِكَ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَكَتَبَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ إِلَى الْيَهُودِ: إِنَّكُمْ أَهْلُ الْحَلْقَةِ وَالْحُصُونِ، وَإِنَّكُمْ لَتُقَاتِلُنَّ صَاحِبَنَا، أَوْ لَنَفْعَلَنَّ كَذَا وَكَذَا، وَلَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَدَمِ نِسَائِكُمْ شَيْءٌ، وَهِيَ الْخَلَاخِيلُ، فَلَمَّا بَلَغَ كِتَابُهُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَجْمَعَتْ بَنُو النَّضِيرِ بِالْغَدْرِ، فَأَرْسَلُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: اخْرُجْ إِلَيْنَا فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِكَ، وَلْيَخْرُجْ مِنَّا ثَلَاثُونَ حَبْرًا، حَتَّى نَلْتَقِيَ بِمَكَانِ الْمَنْصَفِ فَيَسْمَعُوا مِنْكَ، فَإِنْ صَدَّقُوكَ وَآمَنُوا بِكَ آمَنَّا بِكَ، فَقَصَّ خَبَرَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، غَدَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالْكَتَائِبِ فَحَصَرَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّكُمْ وَاللهِ لَا تَأْمَنُونَ عِنْدِي إِلَّا بِعَهْدٍ تُعَاهِدُونِي عَلَيْهِ».

فَأَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُ عَهْدًا، فَقَاتَلَهُمْ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ.

ثُمَّ غَدَا الْغَدُ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ بِالْكَتَائِبِ، وَتَرَكَ بَنِي النَّضِيرِ وَدَعَاهُمْ إِلَى أَنْ يُعَاهِدُوهُ، فَعَاهَدُوهُ، فَانْصَرَفَ عَنْهُمْ، وَغَدَا عَلَى بَنِي النَّضِيرِ بِالْكَتَائِبِ، فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى نَزَلُوا عَلَى الْجَلَاءِ، فَجَلَتْ بَنُو النَّضِيرِ، وَاحْتَمَلُوا مَا أَقَلَّتِ الْإِبِلُ مِنْ أَمْتِعَتِهِمْ، وَأَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ، وَخَشَبِهَا، فَكَانَ نَخْلُ بَنِي النَّضِيرِ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهَا وَخَصَّهُ بِهَا، فَقَالَ: ﴿وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ﴾ يَقُولُ: بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَأَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَهَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَقَسَمَهَا بَيْنَهُمْ وَقَسَمَ مِنْهَا لِرَجُلَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَانَا ذَوِي حَاجَةٍ لَمْ يَقْسِمْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْصَارِ غَيْرِهِمَا، وَبَقِيَ مِنْهَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الَّتِي فِي أَيْدِي بَنِي فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَلَا تَكْفِي لِهَذِهِ الأُمَّةِ شَهَادَةُ اللهِ تعالى فِيهِمْ؟ قَالَ تَبَارَكَ وَتعالى: ﴿الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.

إِنَّ اليَهُودَ يَنْظُرُونَ إلى العُهُودِ وَالمَوَاثِيقِ التي يُوَقِّعُونَهَا عَلَى أَنَّهَا للضَّرُورَةِ وَلِغَرَضٍ مَرْحَلِيٍّ، فَإِذَا اسْتَنْفَدَ الغَرَضُ وَتَحَقَّقَ المُرَادُ نَقَضَ اليَهُودُ المِيثَاقَ وَالعَهْدَ، غَيْرَ آبِهِينَ لِشَيْءٍ، إِنَّ اللُّجُوءَ إلى العُهُودِ وَالمَوَاثِيقِ بِالنِّسْبَةِ لَهُمْ حَالَةٌ اضْطِرَارِيَّةٌ يَلْجَؤُونَ إِلَيْهَا حِينَ يَضْعُفُ مَوْقِفُهُمْ وَيَشْعُرُونَ بِالخَطَرِ، وَانْظُرْ شَاهِدَ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ تعالى: ﴿وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.

فَاليَهُودُ لَا يَخْضَعُونَ إِلَّا بِقُوَّةٍ.

المَرَّةُ الثَّالِثَةُ: جَاءَ في السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ الصَّحِيحَةِ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ذَهَبَ إلى بَنِي النَّضِيرِ لِيَسْتَعِينَ بِهِمْ عَلَى دَفْعِ دِيَةِ رَجُلَيْنِ مُعَاهَدَيْنِ قَتَلَهُمَا خَطَأً عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ في أَعْقَابِ حَادِثَةِ بِئْرِ مَعُونَةَ، فَجَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى جِدَارٍ لِبَنِي النَّضِيرِ، فَهَمُّوا بِإِلْقَاءِ حَجَرٍ عَلَيْهِ وَقَتْلِهِ، فَأَخْبَرَهُ الوَحْيُ بِذَلِكَ، فَانْصَرَفَ عَنْهُمْ مُسْرِعًا إلى المَدِينَةِ، ثُمَّ أَمَرَ بِحِصَارِهِمْ.

حَقًّا هُمْ أَشْقِيَاءُ، وَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾.

ثَانِيًا: يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ، أَنَّهُ مَنْ حَفِظَ اللهَ حَفِظَهُ اللهُ تعالى، وَخَاصَّةً بِالنِّسْبَةِ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ صَرَّحَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾. وَبِقَوْلِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾.

ثَالِثًا: يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ، أَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ شَهِيدًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في مَرَضِهِ الذي الْتَحَقَ بِسَبَبِهِ إلى الرَّفِيقِ الأَعْلَى: «يَا عَائِشَةُ، مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ (هُوَ عِرْقٌ في الصُّلْبِ أَو في الذِّرَاعِ أَو بِبَاطِنِ القَلْبِ تَتَشَعَّبُ مِنْهُ سَائِرُ الشَّرَايِينِ إِذَا انْقَطَعَ مَاتَ صَاحِبُهُ)» رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.

وَقَدْ عَاشَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَكْلِهِ مِنَ الشَّاةِ المَسْمُومَةِ ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ حَتَّى كَانَ وَجَعَهُ الذي قُبِضَ فِيهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا مِنَ المُعْجِزَاتِ حَيْثُ أَنَّهُ لَمْ يُؤَثِّرِ السُّمُّ فِيهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَمَّ تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ، ثُمَّ أَثَّرَ فِيهِ لِيَنَالَ شَرَفَ الشَّهَادَةِ، إِضَافَةً إلى الشَّرَفِ الذي أَكْرَمَهُ اللهُ تعالى بِهِ مِنْ شَرَفِ النُّبُوَّةِ.

رَوَى الحَاكِمُ عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لِأَنْ أَحْلِفَ تِسْعًا إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قُتِلَ قَتْلًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ وَاحِدَةً إِنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ، وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ اتَّخَذَهُ نَبِيًّا وَاتَّخَذَهُ شَهِيدًا.

رَابِعًا: يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ، أَنَّ حَضْرَةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ، بَلْ كَانَ يَعْفُو وَيَصْفَحُ، كَيْفَ لَا يَكُونُ العَفْوُ وَالصَّفْحُ مِنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ اللهُ تعالى لَهُ: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾. وَقَالَ: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾. وَقَالَ: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾. وَقَالَ: ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾. وَقَالَ: ﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾.

لِهَذَا لَمْ يُعَاقِبِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ المَرْأَةَ، بَلْ عَفَا عَنْهَا وَصَفَحَ، وَأَسْلَمَتْ، ثُمَّ قُتِلَتْ قِصَاصًا بِبِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ الْأَنْصَارِيِّ بَعْدَ أَنْ مَاتَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ بِسَبَبِ السُّمِّ.

وَلْنَنْظُرْ كَيْفَ يَتَجَلَّى العَفْوُ عِنْدَ المَقْدِرَةِ، وَلْنَنْظُرْ كَيْفَ تَسْمُو أَخْلَاقُهُ الشَّرِيفَةُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ طَيِّبَةً عَطِرَةً مِنْ خِلَالِ الرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ حَتَّى عَلَى مَنْ سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ القَتْلَ فَاعْتَدَى وَظَلَمَ.

فِدَاكَ رُوحِي وَمَالِي وَأَصْلِي وَفَرْعِي وَزَوْجِي يَا رَسُولَ اللهِ، لَقَدْ أُرْسِلْتَ بِالآيَاتِ فَبَلَّغْتَهَا، وَبُعِثْتَ بِمَكَارِمِ الأَخْلَاقِ فَأَتْمَمْتَهَا.

فَأَيُّ آدَمِيٍّ عِنْدَهُ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ عَقْلٍ يَتَصَدَّى لِقَتْلِ سَمْحٍ كَرِيمٍ، عَفُوٍّ جَوَادٍ، سَمَّاهُ اللهُ تعالى رَؤُوفًا رَحِيمًا، وَأَرْسَلَهُ لِيُخَلِّصَ البَشَرِيَّةَ مِنَ المَعْبُودَاتِ المُزَيَّفَةِ، وَلِيُخْرِجَهَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ وَالرُّشْدِ وَالهِدَايَةِ؟

لَقَدْ كَانُوا سُفَهَاءَ حِينَ أَتْعَبُوا أَنْفُسَهُمْ للنَّيْلِ مِنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ بِأَعْيُنِ رَبِّهِ تَبَارَكَ وتعالى القَائِلِ: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾. وَالقَائِلِ: ﴿أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾. بَلَى كَافِيهِ وَكَافِي مَنْ مَعَهُ، لَكِنِ الذين رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ الغِلُّ بِشَتَّى أَصْنَافِهِ، وَغَطَّاهَا لَيْلُ العَمَاهَةِ بِظَلَامِهِ، ظَلُّوا عَلَى حَالِهِمْ يَتَخَبَّطُونَ بَيْنَ الكَيْدِ وَالمَكْرِ، وَالخِيَانَةِ وَالغَدْرِ ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾.

خَامِسًا: يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ، فَرْطُ حُبِّ الصَّحَابَةِ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ بِشْرُ بْنُ البَرَاءِ: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ، لَقَدْ وَجَدْتُ ذَلِكَ فِي أُكْلَتِي الَّتِي أَكَلْتُ، فَمَا مَنَعَنِي أَنْ أَلْفُظَها إِلَّا أَنِّي أَعْظَمْتُ أَنْ أُنَغِّصَكَ طَعَامَكَ، فَلَمَّا أَسَغْتَ مَا فِي فِيكَ لَمْ أَكُنْ لِأَرْغَبَ بِنَفْسِي عَنْ نَفْسِكَ.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 23/ صفر /1445هـ، الموافق: 8/ أيلول / 2023م