34ـ كلمة شهر ذي الحجة1430هـ: الخلقُ المحمديُّ لا يرقى إليه مطعن

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فمما لا شك فيه أن العالم لم يعرف ارتفاعاً في الأخلاق في كلِّيَّاتها وجزئيَّاتها وأبعادها وشمولها كما عرفه في سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن منتهى آمال أصحاب الأخلاق الحسنة أن يقلِّدوه صلى الله عليه وسلم بخلق واحد من أخلاقه، وهم لا يرتقون بهذا الخلق إلا إلى بعض ما عنده صلى الله عليه وسلم.

وإن الناس جميعاً بكلِّ ما أوتوا من أخلاق لو جُمعت أخلاقهم الحميدة فإنهم لا يبلغون أن يحيطوا إلا بالأقل مما كان عليه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، هذا مع أن الناس لا تخلص أخلاقياتهم مما يعابون عليه بحقٍّ.

أما سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان الأخلاق كلها محضاً، ليس فيها ما يخالط مما يلام عليه الإنسان، إلا إذا كان اللائم أعمى البصيرة يرى الخير شراً والشر خيراً، أو كان حاسداً أو متكبراً أعماه الحسد والكبر عن رؤية الحقيقة التي لا تغيب عن أحد.

وما من أحد عرف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه إلى يومنا هذا بل إلى قيام الساعة من عدوٍّ أو صديق إلا وأسلم في ضميره أن الخلق المحمديَّ لا يرقى إليه مطعن على الإطلاق أبداً.

شهادة أبي جهل:

نعم لقد شهد الخصوم لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غني عنهم وعن شهاداتهم، ولكن لضعاف النفوس قد تنفع، لأن وزنها كبير عندهم، أخرج البيهقي عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (إن أول يوم عرفت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني كنت أمشي أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزقة مكة، إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهل: (يا أبا الحكم هلمَّ إلى الله عز وجل، وإلى رسوله، أدعوك إلى الله). قال أبو جهل: يا محمد، هل أنت منته عن سبِّ آلهتنا؟ هل تريد إلا أن نشهد أن قد بلغت؟ فنحن نشهد أن قد بلغت، فوالله لو أني أعلم أن ما تقول حقٌّ ما اتبعتك. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل عليَّ، فقال: فوالله إني لأعلم أن ما يقول حق، ولكن بَني قُصَيٍّ، قالوا: فينا الحجابة، فقلنا: نعم، فقالوا: فينا الندوة، فقلنا: نعم، ثم قالوا: فينا اللواء، فقلنا: نعم، قالوا: فينا السقاية، فقلنا: نعم، ثم أطعموا وأطعمنا، حتى إذا تحاكت الركب قالوا: منا نبي. والله لا أفعل).

شهادة أبي سفيان قبل إسلامه:

أخرج ابن عساكر عن معاوية رضي الله عنه قال: (خرج أبو سفيان إلى بادية له مُرْدِفاً هند، وخرجت أسير أمامهما وأنا غلام على حمارة لي، إذ سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو سفيان: انزل يا معاوية حتى يركب محمد، فنزلت عن الحمارة وركبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسار أمامنا هنيهة ثم التفت إلينا فقال: يا أبا سفيان بن حرب، ويا هند بنت عتبة، والله لتموتنَّ ثم لتبعثنَّ ثم ليدخلنَّ المحسن الجنة والمسيء النار، وأنا أقول لكم بحق، وإنكم لأول من أُنذرتم، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم {حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم}. حتى بلغ: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِين} فقال له أبو سفيان: أفرغت يا محمد؟ قال: نعم، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمارة وركبتها، وأقبلت هند على أبى سفيان فقالت: ألهذا الساحر الكذاب أنزلت ابني، قال: لا والله ما هو بساحر ولا كذاب).

أما عكرمة بن أبي جهل:

هذا الرجل الذي حارب النبي صلى الله عليه وسلم طويلاً هو وأبوه، يقول رضي الله عنه في لحظة إسلامه:

(أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنت عبد الله ورسوله، وأنت أبرُّ الناس، وأصدق الناس، وأوفى الناس)، قال عكرمة: أقول ذلك وإني لمطأطئ رأسي استحياء منه، ثم قلت: يا رسول الله، استغفر لي كل عداوة عادَيْتُكَها أو موكب أوضعت فيه أريد فيه إظهار الشرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر لعكرمة كل عداوة عادانيها، أو موكب أوضع فيه يريد أن يصدَّ عن سبيلك). قلت: يا رسول الله، مرني بخير ما تعلم فأعلمه، قال: (قل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وتجاهد في سبيله).

ثم قال عكرمة: أما والله يا رسول الله، لا أدع نفقة كنت أنفقتها في الصدِّ عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قاتلت قتالاً في الصدِّ عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله، ثم اجتهد في القتال حتى قُتل يوم أجنادين شهيداً في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمله عام حجَّته على هوازن يصدقها، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعكرمة يومئذ بتبالة).

صور من تواضعه صلى الله عليه وسلم:

بعد الذي ذكرتُ أُذَكِّر نفسي وكلَّ مسلم ببعض أخلاقه صلى الله عليه وسلم، والتي نحن بأمسِّ الحاجة إليها، ألا وهي صفة التواضع، فمن صور تواضعه صلى الله عليه وسلم:

أولاً: أنه صلى الله عليه وسلم كان يخدم نفسه بنفسه، كما روى الإمام أحمد وغيره عَنْ السيدة عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا سُئِلَتْ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: (كَانَ يَخِيطُ ثَوْبَهُ، وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيَعْمَلُ مَا يَعْمَلُ الرِّجَالُ فِي بُيُوتِهِمْ). وفي رواية: (وَيُرَقِّع دَلْوه، وَيُفَلِّي ثَوْبه، وَيَحْلُب شَاته، وَيَخْدُم نَفْسه).

وهذا طبعاً لا ينافي أن يأذن لبعض أصحابه الكرام رضي الله عنهم أن يتشرفوا بخدمته لينالوا هذا الشرف العظيم، وما كان يأذن لأحد منهم من باب التكبر والترفُّع حاشاه صلى الله عليه وسلم من ذلك.

ثانياً: لقد كان صلى الله عليه وسلم يشرب مما يشرب منه الناس، روى الإمام أحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم السقاية، فقال: اسقوني من هذا، فقال العباس: ألا نسقيك مما نصنع في البيوت؟ قال: لا، ولكن اسقوني مما يشرب الناس، قال: فأُتِيَ بقدح من نبيذ فذاقه فقطَّب، ثم قال: هلُمُّوا ماء فصبَّه عليه، ثم قال: زد فيه مرتين أو ثلاثاً قال: إذا أصابكم هذا فاصنعوا به هكذا) رواه ابن أبي شيبة.

أبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرب إلا مما يشرب منه الناس، ولو خاضت فيه أيديهم، وروى الطبراني عن ابن عمر رضي الله قال: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْعَثُ إِلَى الْمَطَاهِرِ، فَيُؤْتَى بِالْمَاءِ، فَيَشْرَبُهُ، يَرْجُو بَرَكَةَ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ).

ثالثاً: يطلب الدعاء من أصحابه، كما جاء في سنن الترمذي وأبي داود أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن له، وقال له: (أَشْرِكْنَا يَا أُخَيَّ فِي دُعَائِكَ) وفي رواية: (لا تَنْسَنَا يَا أُخَيَّ مِنْ دُعَائِكَ).

وأخيراً: اختار صلى الله عليه وسلم أن يكون عبداً نبياً لا نبياً ملكاً، كما روى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، وجبريل عليه السلام على الصفا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبريل، والذي بعثك بالحق ما أمسى لآل محمد سفَّة من دقيق، ولا كفٌّ من سويق، فلم يكن كلامه بأسرع من أن سمع هدَّة من السماء أفزعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمر الله القيامة أن تقوم؟ قال: لا، ولكن أمر الله إسرافيل، فنزل إليك حين سمع كلامك، فأتاه إسرافيل، فقال: إن الله سمع ما ذكرت، فبعثني إليك بمفاتيح خزائن الأرض، وأمرني أن يعرضن عليك إن أحببت أن أُسَيِّرَ معك جبال تهامة زمرداً وياقوتاً وذهباً وفضة فعلت، فإن شئت نبياً ملكاً، وإن شئت نبياً عبداً؟ فأومأ إليه جبريل أن تواضع، فقال: بل نبياً عبداً، ثلاثاً).

ختاماً: أذكِّر نفسي وأذكِّر كلَّ أخ مسلم كريم بحديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم عن عياض بن حمَّار رضي الله عنه قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلا يَبْغِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ).

نسألك يا ربَّنا أن تكرمنا بالتحلِّي بأخلاق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم برحمتك يا أرحم الراحمين، حتى نفوز بالقرب منهم يوم القيامة ،وإن لم نكن أهلاً لذلك، ولكنَّ رحمتك أهلٌ لذاك.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

أخوكم أحمد النعسان

يرجوكم دعوة صالحة

**     **     **