66ـ نحو أسرة مسلمة: حتى تكون ربَّ أسرة ناجحاً كن رفيقاً ليِّناً(1)

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

خلاصة الدرس الماضي:

فقد ذكرنا في الدرس الماضي بأنه من أراد أن يكون ربَّ أسرة ناجحاً فعليه بالاقتداء بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أسوةٌ لكلِّ زوج ولكلِّ أب ولكلِّ مربٍّ، فالسعيد من أكرمه الله تعالى بالاقتداء به صلى الله عليه وسلم.

وتحدَّثنا في الدرس الماضي عن صفة الحلم والأناة التي يجب على الزوج أن يتحلَّى بها في حياته الأسرية إذا أراد أن يكون ربَّ أسرة ناجحاً، وعرفنا بأن صفة الحلم يحبها الله تعالى أن تكون في خلقه.

يا صاحب الأسرة عليك بالرفق واللين:

وفي درسنا هذا أقول: إذا أردت أن تكون ربَّ أسرة ناجحاً فعليك بالرفق واللين الذي هو ظاهرة من ظواهر خلق الصبر، وظاهرة من ظواهر خلق الرحمة، فمن كان رفيقاً ليِّن العريكة فهو صابر رحيم، والصابر لا يعلم أجره إلا الله تعالى، قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَاب}. عطاء مفتوح بغير حساب، والمعطي هو الله تعالى الذي لا تنفد خزائنه، ربما أن يعطيك إنسان شيكاً مفتوحاً ما كتب عليه رقم، قد تملأه أنت وتذهب إلى البنك فترى رصيده صفراً، فيكون هذا الإنسان قد خدعك.

ولكن الله عز وجل لا يخدع أحداً من خلقه، فعندما يقول: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. فحدِّث بدون حرج، عطاء بلا حدود، بحيث تأخذ ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

فالرفق واللين من ظواهر خلق الصبر الذي لا يعلم أجره إلا الله تعالى.

والرحيم هو من أهل الجنة، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن لكلِّ شجرة ثمرة، وثمرة القلب الولد، وإن الله لا يرحم من لا يرحم ولده، والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة إلا رحيم، قلنا: يا رسول الله كلنا رحيم، قال: ليست الرحمة أن يرحم أحدكم خاصته حتى يرحم الناس أجمعين) رواه البزار عن ابن عمر رضي الله عنه.

الوالد مجبول بالفطرة على خلق الرحمة والرفق واللين بالولد، هذا بشكل عام، ولكن قد يكون هناك شذوذ والعياذ بالله تعالى عند بعض الآباء، لذلك نبَّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله: (إن الله لا يرحم من لا يرحم ولده).

لذلك نجد القرآن الكريم ما أكد على رحمة الوالد بولده، لأن الطبيعي في الآباء الرحمة، ونرى آثار هذه الرحمة من الآباء عندما تحمل زوجته تراه حريصاً على زوجته أن لا تكثر الحركة حتى لا تتعب، من أجل أي شيء؟ من أجل الولد.

فإذا جاء شهر رمضان وكانت زوجته مرضعاً وتخاف على ولدها في الصيام، أخبرها أن عليها أن تفطر من أجل الولد، وهذا من الرحمة التي جبلت عليها وهكذا، إلا في موطن واحد أكد القرآن العظيم فيه على الوالدين بالعدل بين الأولاد وذلك من خلال قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}.

لماذا؟ لأن العادات الجاهلية كانت تحرم البنات من التركات وتجور عليهنَّ، بل ربما كان الظلم عليهنَّ أشدَّ، فأراد الإسلام أن يلغي هذه الفوارق حتى في مسألة المال.

ومعلوم بأن هناك فارقاً كبيراً بين الإرث والعطية، فالإرث لا يكون إلا بعد وفاة المورِّث، أما العطيَّة فتكون في حال الحياة، فإذا كان المال إرثاً فيلتزم مُقَسِّم التركة بقوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}.

أما إذا كان العطاء في حال الحياة فلا بد من العدل بين الأبناء ذكوراً وإناثاً، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (سَوُّوا بَيْنَ أَوْلادِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ، فَلَوْ كُنْتُ مُفَضِّلاً أَحَدًا لَفَضَّلْتُ النِّسَاءَ) رواه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ولكن كأن عادة الجاهلية عادت إلى الأمة إلا من رحم الله تعالى، الوالد يريد أن يعطي جلَّ أمواله لأولاده الذكور، والوالدة تريد أن تعطي ذهبها لبناتها. لماذا هذا؟

ولكنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد منك أن تكون رحيماً بولدك فقط، لأن رحمتك به دون تكلُّف، بل يريدك أن تكون رحيماً بالناس جميعاً، وأن يكون لك حظٌّ من قول الله عز وجل لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}.

وصيَّة الإسلام بالرفق:

أيها الإخوة: لقد أوصانا الإسلام بالرفق وحثَّنا عليه، واعتبر المحروم منه محروماً من خير كثير، وذلك لأن الرفق من شأنه أن يُصلح الآخرين، ويعطي النتائج الطيبة والثمرات النافعة، بخلاف العنف والشدة والقسوة التي تفسد، ولا تعطي إلا نتائج سيئة.

الرفق واللين يصلح النفوس ويؤثر فيها تأثيراً حسناً، ويستعطفها إلى المطلوب منها أفضل استعطاف، ومن شأنه أن يلين عريكتها ولو كانت صلبة جافة قاسية، بخلاف معاملتها بالعنف والقسوة فإنه يولِّد عندها صلابة التحدي والعناد، وعدم الاستجابة للمطلوب منها، وإن كان حقاً وخيراً.

الرفق واللين يؤلِّف القلوب، ويجعل المودة فيها، لا سيما رفق الزوج بزوجته، والوالد بأولاده في إدارة شؤونهم وتسيير أمورهم.

أما العنف والقسوة فإنه يورث العداوات والأحقاد ورغبات الانتقام إنْ من الزوجة أو الأولاد لا قدَّر الله تعالى، قال تعالى مخاطباً سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين}. ومن انفضَّ عنك بسبب القسوة والعنف في غالب الأمر ناصبك العداء، والإسلام ما جاء إلا ليجعلنا كالجسد الواحد، لا في الأسرة فحسب، بل في المجتمع كله، قال صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) رواه مسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.

توجيهات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في الرفق:

أيها الإخوة: أذكِّر نفسي وإياكم بتوجيهات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في الرفق:

أولاً: صفة الرفق من صفات ربنا عز وجل، وهو يحبُّها:

روى الإمام مسلم عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ). وفي رواية: (إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ).

ثانياً: صفة الرفق تُزَيِّنُ كل شيء:

روى الإمام مسلم عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ الرِّفْق لا يَكُون فِي شَيْء إِلا زَانَهُ ، وَلا يُنْزَع مِنْ شَيْء إِلا شَانَهُ).

ثالثاً: من حُرِم الرِّفق حُرِم الخيرَ كلَّه:

روى الإمام مسلم عن جرير بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه قال: سمعتُ رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يقُولُ: (مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرمِ الخيْرَ كُلَّهُ). وفي رواية للإمام أحمد عن السيدة عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّهُ مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ وَحُسْنُ الْجِوَارِ يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ وَيَزِيدَانِ فِي الأَعْمَارِ).

روى الإمام مسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي بَيْتِي هَذَا: (اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ).

وأنت أيها الزوج وليُّ أمر البيت، وأنت راعي الأسرة، كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه البخاري عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، قَالَ: فَسَمِعْتُ هَؤُلَاءِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَحْسِبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَالرَّجُلُ فِي مَالِ أَبِيهِ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ).

خامساً: تُحَرَّم النار على الرفيق الهين اللين:

روى الترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَلا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ، أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ؟ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ سَهْلٍ).

سادساً: الرفيق أراد الله به خيراً:

روى الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: (يَا عَائِشَةُ، ارْفُقِي، فَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا دَلَّهُمْ عَلَى بَابِ الرِّفْقِ). وفي رواية: (إذا أراد الله بأهل بيت خيراً أدخل عليهم باب الرفق، فإن الرفق لم يكن في شيء قط إلا زانه).

سابعاً: الرفق واللين من صفة كرام الناس:

روى الترمذي عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي). وفي رواية لابن عساكر عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أكرم النساء إلا كريم ، وما أهانهنَّ إلا لئيم).

من الكرامة لهنَّ الرفق بهنَّ واللين لهنَّ في غير معصية الله عز وجل.

ثامناً: الرفق واللين من صفات المؤمنين الكُمَّل:

روى الترمذي عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ مِنْ أَكْمَلِ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَأَلْطَفُهُمْ بِأَهْلِهِ). وهل اللطيف يكون عنيفاً قاسياً أم هيِّناً ليِّناً؟

روى الترمذي كذلك عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنهَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا).

خاتمة نسأل الله تعالى حسنها:

أيها الإخوة: بعد أن عرفنا بعض أحاديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خلق الرفق واللين، يجب علينا أن نعرف شيئاً من سيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث يتجلى فيها خلق الرفق واللين، وهذا ما سنتحدث عنه في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

**     **     **