38ـ كلمة شهر ربيع الثاني1431هـ: استعن على الحفظ بالعمل

 

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيقول بعض التابعين: كنا نستعين على حفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمل بها. اهـ.

العمل يحيي القلوب بالمعرفة اليقظةِ الدافعة، والعلم الذي ينشأ عن العلم هو الملكة التي يستنير بها المرء، ويعرف منها مواقع أقدامه في دروب الحياة المتشابهة.

وفي هذا يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيم}.

ومقتضى الإيمان بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد تقوى الله عز وجل هو اقتفاء أثره واتباع سنته صلى الله عليه وسلم، لأنه الترجمان العملي الحي لما في كتاب الله عز وجل، وهذا ما تؤكده السيدة عائشة رضي الله عنها عندما سئلت عن خلق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ. رواه أحمد.

والمؤمن عندما يواظب على فعل المأمورات وترك المحظورات فإنه يكتسب من ذلك حِدَّةً في بصيرته وحاسَّة دقيقة يميز بها الخبيث من الطيب، وقلَّما تختلط الأمور على فطنته، ولو لم يرد فيها نص واضح، قال تعالى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}. وقال جلَّت قدرته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}.

إن العلم الناشئ عن العمل هو خلاصة المِران والتجربة.

ومن أراد السعادة فليعمل بما علم، ومن أراد حفظ العلم فليعمل بما علم، ومن أراد جنة عرضها السموات والأرض فليعمل بما علم، ومن أراد أن يكون قدوة صالحة لغيره فليعمل بما علم، ومن أراد أن يدعو إلى الله بحق ويهدي اللهُ عز وجل به غيره فليعمل بما علم، ومن أراد النجاح في التربية والإصلاح فليعمل بما علم، ومن أراد علماً لَدُنيَّاً فليعمل بما علم.

لا يقبل من أحد أن يقف عند حدود القول مهما كان بليغاً، ولا أن يقف عند حدود الشرح مهما كان مستفيضاً.

أيها الزوج! أيها التاجر! أيها الحاكم! أيها المعلِّم! أيها المسؤول! إذا أمرت بالخير فافعله أنت أولاً.

وإذا نهيت عن شر فاسبق إلى البُعدِ عنه أولاً.

ثم اجتهد أن يتحوَّل أمرك ونهيك إلى حقائقَ حيَّةٍ في المجتمع، بحيث يكون تغييرُ المنكر وإقرارُ المعروف غايات بيِّنة يراد إيقاعها بكل وسيلة، وبأقصر وقت.

نعم إن تعشُّق الكمال قد ينتهي إلى حسن الحديث عنه، ولكن إن اكتفى عشَّاق الكمال بالحديث عنه، ثم طُوي الأمر كلُّه دون عمل وسلوك فإنه يموت في نفس مدَّعي العشق والمحبة، وقد كَرِهَ الله عز وجل هذا اللون من السلوك الناقص لأنه أقرب إلى الإدِّعاء، ولأن أصحابه يقصِّرون وهم أبصر من غيرهم بمواطن الرشد، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُون * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُون}.

ومن خلال ما تقدَّم نعلم بأن العلم تارةً يكون ممدوحاً وتارةً يكون مذموماً، وقد ذكر الله تعالى النوعين في كتابه العظيم، فقال تعالى عن العلم النافع ـ وهو الذي جُسِّد تجسيداً عملياً ـ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ}؟ وقال تعالى: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ}. وقال تعالى: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}.

أما العلم المذموم ـ وهو الذي لم ينتفع صاحبه منه ـ فقد قال تعالى في حق حامله: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}. وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِين}. وقال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً}.

فمن أراد حفظ العلم فعليه بالعمل فيه، وهو في الآخرة إن شاء الله تعالى بأفضل المنازل، كما جاء عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْمًا، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ. وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلانٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ).

وأما الذي يتعلَّم ولا يعمل فعلمه إلى ضياع، وهو في أخبث المنازل يوم القيامة إذا لم يتب إلى الله تعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، لا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَلا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ. وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلانٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

وروى ابن ماجه عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سَلُوا اللَّهَ عِلْمًا نَافِعًا، وَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ).

وختاماً من دعاء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:

(اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لا يُسْتَجَابُ لَهَا) رواه مسلم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه.

اللهم أكرمنا بذلك ووفِّقنا للعمل بما علمنا، وعلِّمنا ما لم نعلم، واجعل لنا فرقانا برحمتك يا أرحم الراحمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

**        **     **