45ـ كلمة شهر ذي القعدة 1431هـ: موجبات برِّ الوالدين

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فلقد أوجب الله عز وجل برَّ الوالدين والإحسانَ إليهما، والقيامَ بهما، وطاعتَهما والإنفاقَ عليهما، وقَرَنَ ذلك بعبادته، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}.

وقد يتساءل الإنسان ما هي موجبات برِّ الوالدين؟

الجواب على ذلك:

أولاً: الموجب الأصلي لبرِّ الوالدين هو أمر الله تبارك وتعالى، كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}. وقال أيضاً: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}. فما دام العبد مُقرّاً بعبوديته لربه عز وجل، فلا يسع العبد إلا امتثال أمر الله تعالى، هذا هو الموجب الأول.

ثانياً: ربُّنا عز وجل يقول: {وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}. ويقول: {هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَان}. ويقول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (مَنْ لَمْ يَشْكُر النَّاسَ لَمْ يَشْكُر اللهَ عَزَّ وَجَلَّ) رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ولو نظر الإنسان إلى فضل وإحسان والديه عليه لوجد فضلهم وإحسانهم لا يعدُّ ولا يحصى، ومن جملة ذلك:

1ـ الحمل: حيث كان بطن الأم وعاءً للولد، حملته الأم في أحشائها وتخلَّق في رحمها، ونُفخت فيه الروح وهو في بطنها، وهي في سائر أحوالها ـ أثناء الحمل ـ في ضعف وكُرْه حتى ولدته، قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِير}. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء}. وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِين * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِين * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين}. ويقول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ) رواه مسلم عن عبد الله رضي الله عنه. أليس هذا كافٍ لوجوب برِّهِما وخاصةً الأم؟

2ـ الولادة: من موجبات برِّ الوالدين، ولادة الأم لولدها، ولا يعلم آلام الطلق والولادة إلا النساء، وكلُّ ذلك بقضاء وقدر، ولشدة ما تلاقيه المرأة أثناء الولادة جعلها الله تعالى شهيدةً فيما لو ماتت في تلك الحالة، كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود عن جابر بن عتيك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قال: (الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللهِ: الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ، وَالْغَرِقُ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ شَهِيدٌ، وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ الْحَرْقِ شَهِيدٌ، وَالَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدْمِ شَهِيدٌ، وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ شَهِيدَةٌ). يعني تموت المرأة وفي بطنها ولد. أليست الولادة كافية لوجوب برِّهما وخاصة الأم؟

3ـ الرضاع: من موجبات برِّ الوالدين وخاصة في حقِّ الأم هو الرضاع، حيث يتغذَّى الولد من جسدها، وقد يستمرُّ هذا الرضاع إلى سنتين كاملتين، قال تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا}. وقال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}. وقال تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ}. أليس هذا كافياً في إيجاب البرِّ بهما وخاصة للأم؟

4ـ تربية الولد: من موجبات برِّ الوالدين تربية الولد، وخاصة في ابتداء أمره، حيث تقوم الأم بعنايته وتنظيفه، وما يعتري الوالدين من سهر ومشقَّة قد تصل إلى حدٍّ لا يطاق، والآمال معلَّقة عليه، وإلى هذا أشار ربنا عزَّ وجل في قوله: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}.

وتجدر الإشارة هنا إلى قوله تعالى: {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}. لم يقل كما خلَّفاني، لأنه ليس الغاية من الزواج أن يخلِّف الإنسان بدون تربية، فالمعوَّل عليه هو التربية، اللهم وفِّقنا لما كلَّفتنا به. آمين.

5ـ حرص الوالدين على الولد: من موجبات برِّ الوالدين حرص الوالدين على ولدهما من ساعة علوقه في الرحم حتى يولد ويكبر ويشيب، وربنا عز وجل يعطينا صورة عن حرص الوالدين على الولد، وذلك من خلال قصة أم سيدنا موسى عليه السلام، قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِين * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِين * وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُون * وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِين * وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُون * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُون * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُون}.

ومن صور الحرص على الولد، حرص الوالدين على سلامة الولد من الهلاك، وخاصة إذا كان سيموت على غير الملَّة، ويعطينا ربنا عز وجل صورة عن ذلك من خلال حرص سيدنا نوح عليه السلام، قال تعالى: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِين * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِين * وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِين * وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِين * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِين}.

والملاحظ في قوله تعالى حكاية على لسان سيدنا نوح عليه السلام: { وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ}. النداء فيه شفقة وألم على حالة الولد، وحرصٌ على سلامته، وناداه بتلك الكلمة الممزوجة بالحنان {يَا بُنَيَّ}. ألا يكفي هذا الأمر أن يكون موجباً لبرِّ الوالدين؟

اللهم اجعلنا برَرَةً بآبائنا وأمهاتنا ما دامت أرواحنا في أجسادنا. آمين. ولعل الحديث له صلة في الكلمة التالية إن شاء الله تعالى.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. سبحان ربِّك ربِّ العزة عمَّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

**     **     **