46ـ كلمة شهر ذي الحجة 1431هـ: وصية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالوالدين

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيجب على المسلم أن يعلم كيف عظَّم الله تعالى حقَّ الوالدين، حتى جعل رضاه تعالى في رضاهما، وأنهما جنة الولد أو ناره، وأن الإنسان عاجز عن أداء حقِّهما مهما فعل، فهما حملاه، وأنجباه، وربياه، وكانا أحرص عليه من العين على النظر، ومن الأذن على السمع.

كما يجب على المسلم أن يعلم ما أعدَّ الله عز وجل لهذا البار بحقوقهما من أجر وثواب، ودخول جنة عرضها السموات والأرض، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ومرافقة الخيرة والصفوة من خلق الله عز وجل في جنات عدن، ومن عاجل ثوابٍ في الدنيا، من زيادة في العمر، وتكفير للسيئات والذنوب.

وبالمقابل لقد حرَّم الله تعالى على الرجل عقوق الوالدين، وجعل عقوقهما من أكبر الكبائر، والعاقُّ للوالدين ملعون في الدنيا والآخرة، ومصيره إلى جنهم وبئس المصير، ولا يُرفع للعاق عمل صالح، ولا تُقبل منه عبادة، لأنه أتى بذنب عظيم.

لقد حرَّم الله تعالى على الولد أن يتأفَّف أمام والديه، فما بالك في الأكبر من ذلك؟ ولقد حرَّم على الولد نَهْرَهما فما بالك في الأكبر من ذلك؟ ولقد حرم على الولد إحزانهما وإبكائهما فما بالك بما هو أكبر؟

وصية الله عز وجل بالوالدين:

لقد أوجب الله تبارك وتعالى على الولد برَّ والديه، وقرن ذلك سبحانه وتعالى بعبادته، فقال تبارك وتعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}. وأمر بالإحسان إليهما بدون قيد أو شرط، وبدون بيان إيمان ونقيضه، وبدون بيان صلاح ونقيضه، فقال تبارك وتعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}. وقال جلَّت عظمته: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}.

ولعظم مكانتهما عند الله عز وجل، أقسم الله عز وجل بهما فقال: {لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَد * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَد * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَد}. وربنا عز وجل يُقسم بهما لأنها أعجب ما خلق الله عز وجل، لما فيهما من آيات بيِّنات كما قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُون}. ولأن الله تبارك وتعالى جعل منهما الأنبياء والمرسلين، وجعل منهما العلماء والأولياء والصالحين، ولأن الوجود المخلوق من عالم السماء والأرض مسخَّر لهما، قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ}.

ولقد وصَّى الله عز وجل بهما الأبناء، فقال تبارك وتعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون}. وقال تبارك وتعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِير}. وقالت جلَّت قدرته: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا}. اللهم أعنا على برِّهما ما دامت أرواحنا في أجسادنا. آمين.

وصية سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بالوالدين:

وكما أوصى ربنا عز وجل بالوالدين إحساناً، كذلك أوصى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بالبرِّ للوالدين وبالأمهات خاصة:

أولاً: عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيِّ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِآبَائِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِالأَقْرَبِ فَالأَقْرَبِ) رواه الإمام أحمد.

ثانياً: عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِي سَلامَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أُوصِي الرَّجُلَ بِأُمِّهِ، أُوصِي الرَّجُلَ بِأُمِّهِ، أُوصِي الرَّجُلَ بِأُمِّهِ، أُوصِي الرَّجُلَ بِأَبِيهِ، أُوصِي الرَّجُلَ بِأَبِيهِ، أُوصِي الرَّجُلَ بِمَوْلاهُ الَّذِي يَلِيهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ فِيهِ أَذًى يُؤْذِيهِ) رواه الإمام أحمد.

ثالثاً: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: (أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: بَرَّ أُمَّكَ، ثُمَّ عَادَ فَقَالَ: بَرَّ أُمَّكَ، ثُمَّ عَادَ الرَّابِعَةَ فَقَالَ: بَرَّ أَبَاكَ) رواه الإمام أحمد.

رابعاً: عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه قال : سأَلتُ النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: (أَيُّ الْعملِ أَحبُّ إلى اللَّهِ تَعالى؟ قال: الصَّلاةُ على وقْتِهَا، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قال: بِرُّ الْوَالِديْنِ، قلتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قال: الجِهَادُ في سبِيِل الله) رواه مسلم.

خامساً: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبُوكَ) رواه مسلم.

سادساً: عن أبي أُسَيْد مالكِ بنِ ربِيعَةَ السَّاعِدِيِّ رضي اللَّه عنه قال: (بَيْنا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رسول اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم إذ جاءَهُ رجُلٌ مِنْ بني سَلَمة فقالَ: يا رسولَ اللَّه هَلْ بقي مِن بِرِّ أَبويَّ شيءٌ أَبرُّهُمَا بِهِ بَعدَ مَوْتِهِمَا؟ فقال: نَعَمْ، الصَّلاَة علَيْهِمَا، والاسْتِغْفَارُ لَهُما، وإِنْفاذُ عَهْدِهِما، وصِلةُ الرَّحِمِ التي لا تُوصَلُ إِلاَّ بِهِمَا، وإِكَرَامُ صَدِيقهما) رواه أبو داود.

أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفِّقنا لبرِّهما، وأن يوفِّق أبناءنا لبرِّنا، وأن يجعلنا من سعداء الدارين. آمين.

أخوكم أحمد النعسان

يرجوكم دعوة صالحة

**     **     **