17ـ آداب الصائم: الأدب الثاني: (النية)(1)

 

مقدِّمة الدرس:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن من آداب الصائم الاستعداد للصوم بتبييت النية ليلاً، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن سيدنا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لكل ِامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ).

وهذا الحديث الشريف من الأحاديث المشهورة، والذي يركز عليه العلماء عند كتاباتهم خاصة، وذلك لأهمية النية في الأقوال والأفعال والأحوال كلِّها.

أربع أحاديث تكفيك لدينك:

ويقول أبو داود: يكفي الإنسان لدينه أربع أحاديث:

الأول: قول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ).

الثاني: قول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ) رواه الترمذي.

الثالث: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) رواه البخاري.

الرابع: قول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الْحَلالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ) رواه البخاري ومسلم واللفظ له.

حرِّر النية في صومك، وإلا...

لذلك من آداب الصائم أن يستعدَّ للصيام بنية خالصة لوجه الله عز وجل، وأن يكون على حذر من الشرك الخفي في عباداته كلها، وخاصة عبادة الصوم لأنه لا يعلم أحد أجره إلا الله تعالى.

لذلك حذر الله تعالى من الشرك الخفي وذلك بقوله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}. وأمر بالإخلاص بقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة}. وإلا فرُبَّ عابد ليس له من عبادته إلا الجهد والتعب، وهو من الخاسرين يوم القيامة بسبب سوء نيته، كما جاء في الحديث الشريف: (إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ.

وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ.

وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ) رواه مسلم.

ويقول الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَة * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَة * عَامِلَةٌ نَّاصِبَة * تَصْلَى نَارًا حَامِيَة * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَة * لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيع * لاَ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوع}.

الاعتبار بالآخرين:

ومرَّ سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بدير راهب، فناداه: يا راهب يا راهب. قال: فأشرف عليه، فجعل عمر ينظر إليه ويبكي، قال: فقيل له: يا أمير المؤمنين ما يبكيك من هذا؟ قال: «ذكرت قول الله عز وجل في كتابه: {عَامِلَةٌ نَّاصِبَة * تَصْلَى نَارًا حَامِيَة * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَة} فذلك الذي أبكاني» رواه الحاكم في المستدرك.

فالنية ضروريَّة في كل العبادات، وخاصة في الصوم، وإلا عرَّض العابد عبادته إلى الضياع والعياذ بالله تعالى، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا}.

فضيلة النية:

النية الصالحة في العبادات مهمَّة جداً، لأنها محطُّ نظر الله تعالى، كما جاء في الحديث الشريف: (إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ) رواه مسلم. فهذا هو سرُّ اهتمام الشارع بالنية، فأناطَ قبولَ العمل وردَّه وترتيب الثواب والعقاب بالنية.

ويظهر أثر ذلك فيما يلي:

العبد يُشْرَكُ في الأجر على العمل الصالح بنيَّته ولو لم يعمله، وكذلك يُشْرَكُ بالوزر في العمل الفاسد بنيته ولو لم يعمله، ويتجلى ذلك في الأحاديث الآتية:

أولاً: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَدَنَا مِنْ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: (إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلا كَانُوا مَعَكُمْ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ) رواه البخاري.

فكم من معذور في أداء العبادة ينال أجر العبادة كاملة بدون نقصان ببركة نيَّته، فالمريض الذي يريد الصيام ولكن المرض أقعده عن الصيام فله أجر الصائم ولو كان مفطراً، وهكذا سائر أصحاب الأعذار.

لذلك أقول لصاحب العذر: لا تحزن إن عجزت عن أداء العبادة لعذر شرعي، فلك أجر العبادة بنيتك، لأن الله ينظر إلى قلب العبد، فبالنية الصالحة تنال أجر أهل الطاعة إن عجزت بعذرٍ عن أدائها.

ثانياً: قول رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ) رواه البخاري. وهذا الحديث الشريف يثبت فيه النبي صلى الله عليه وسلم الوِزر على العبد ولو لم يفعل المحظور، وذلك بسبب نيته.

ثالثاً: والحديث الجامع بشكل عام لهذين الأمرين هو قوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ:

عَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَالاً وَعِلْمًا، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ حَقَّهُ، قَالَ: فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ.

قَالَ: وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً، قَالَ: فَهُوَ يَقُولُ لَوْ كَانَ لِي مَالٌ عَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلانٍ، قَالَ: فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ.

قَالَ: وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، لا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقَّهُ، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ.

قَالَ: وَعَبْدٌ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلا عِلْمًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مَالٌ لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلانٍ، قَالَ: هِيَ نِيَّتُهُ فَوِزْرُهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ) رواه أحمد.

رابعاً: عماد الأعمال النيات، فالمرء يُتَقبل منه عمله ويثاب عليه، أو يردُّ عمله ويعاقب عليه بحسب نيته، كما جاء في الحديث: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أَيُّمَا رَجُلٍ أَصْدَقَ امْرَأَةً صَدَاقًا، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لا يُرِيدُ أَدَاءَهُ إِلَيْهَا، فَغَرَّهَا بِاللَّهِ وَاسْتَحَلَّ فَرْجَهَا بِالْبَاطِلِ، لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ يَلْقَاهُ وَهُوَ زَانٍ. وَأَيُّمَا رَجُلٍ ادَّانَ مِنْ رَجُلٍ دَيْنًا، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لا يُرِيدُ أَدَاءَهُ إِلَيْهِ، فَغَرَّهُ بِاللَّهِ وَاسْتَحَلَّ مَالَهُ بِالْبَاطِلِ، لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ يَلْقَاهُ وَهُوَ سَارِقٌ) رواه أحمد.

خامساً: ناوي القربة يثاب على مجرَّد نيته من غير العمل، ولا يثاب على أكثر الأعمال إلا إذا نوى، لذلك قال الفقهاء: يسن نية قيام الليل عند النوم ليفوز بقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ، كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ) رواه الترمذي.

وقالوا: يثاب على نيَّته وحدها حسنة، فإن عملها أثيب بعشر حسنات. فمع النية وأحكامها في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.

أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من عباده المخلِصين المخلَصين، وأن يتقبَّل منا ومنكم سائر الطاعات والعبادات بفضله وجوده وكرمه. آمين. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

**     **     **