35ـ آداب الصائم: الأدب السابع: اغتنام العشر الأواخر(4)

 

مقدِّمة الدرس:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا باغي الخير أقبلْ، ويا باغي الشر أقصِرْ، واغتنم هذه الأيام المتبقِّية من شهر رمضان، وذلك بتلاوة القرآن العظيم، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان، وكان يتدارس القرآن العظيم مع سيدنا جبريل عليه السلام في كل ليلة من ليالي رمضان، فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ).

من أوائل ما أُمر به النبي صلى الله عليه وسلم:

ونحن نعلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم من أوائل ما أُمر به تلاوة القرآن العظيم، وذلك بقوله جلَّت قدرته: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّل * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً}.

أثر تلاوة القرآن في القلب:

فقيام الليل وتلاوة القرآن العظيم من أوائل الأوامر التي توجَّهت إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من قِبَل ربنا عز وجل، لأنهما عون على تحمُّل التكاليف الشرعية: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً}.

هو قول ثقيل يثقِّل الميزان يوم القيامة بالحسنات، وهو ثقيل على النفس، وهو ثقيل في مضمونه وأنواره وتجلياته، قال تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}.

ومن الأمر الطبيعي أن يكون التكليف شاقاً وصعباً على النفس، وخاصة نفوسنا التي وصفها ربنا عز وجل بقوله: {وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ}، حاشا نفوس الأنبياء والمرسلين، وخاصة نفس سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

إذا جاء التكليف من الله تعالى جاء وهو بمقدور الإنسان، لأن الله تعالى يقول: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}، ولكن النفس الأمارة بالسوء ربما أن تتعلَّل بأن هذا الأمر مقدور عليه، وذاك ليس مقدوراً عليه، والحق إن كلِّفت من قبل مولانا فهو مقدور عليه قولاً واحداً، إن أخذت بتوجيهات القرآن العظيم، من جملة ذلك قيام الليل وتلاوة القرآن العظيم فهما العون لك على تحمُّل هذه التكاليف.

لذلك نحن نرى أهل الأسحار، أهل القيام بالليل، أهل القرآن الكريم من أصحاب الأخلاق السامية الراقية، حيث لا يقابلون السيئة بالسيئة بل يعفون ويصفحون، ويتحلَّون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَأَعْرِضْ عَمَّنْ ظَلَمَكَ) رواه أحمد.

ترى أهل القرآن اتسعت قلوبهم وصدورهم فلا يعكر صفوها شيء، وكلما كثرت التلاوة وكثر القيام كلما اتسعت قلوبهم، ومن اتسع قلبه اتسعت أخلاقه، وكان مؤمناً حقاً.

سعة الأخلاق من تلاوة القرآن:

سعة الأخلاق تأتي من تلاوة القرآن العظيم، لأن تلاوة القرآن تزيد في إيمان العبد، وإذا زاد الإيمان اتسع القلب، وإذا اتسع القلب صار صاحبه حليماً صبوراً، وهذا هو المؤمن الحق، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون * أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}، هذه الصفات الخمس للمؤمنين تدفعهم إلى تحقيق الخصال الثلاثة التي ذكرت في السابقة لهذه الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين}.

فمن أراد التقوى وإصلاح ذات البين وطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فعليه أن يتحقَّق بصفات المؤمنين.

المؤمن والمؤمن الحقُّ:

فليس كل مؤمن مؤمناً حقاً، فقد يكون مؤمناً بالاسم فقط، ولكن ترى أفعاله أفعال غير المؤمنين، وقد يكون مؤمناً حقاً، والمؤمن الحق هو الذي اتصف بهذه الصفات الخمس:

1ـ إذا ذكر الله وَجِلَ قلب المؤمن الحق.

2ـ إذا تليت عليه آيات الكتاب العظيم زاد إيمانه.

3ـ توكُّله على الله تعالى لا على المخلوقات.

4ـ يُقيم الصلاة إقامة لا يؤدِّيها أداء، وإقامة الصلاة تكون بإقامتها روحاً وشبَحاً، يؤدي أركانها كاملة مع الخشوع فيها.

5ـ يؤدي زكاة ماله، ويرى أن لله حقاً في المال سوى الزكاة.

فهذا هو المؤمن الحق، والذي يرى آثار إيمانه الحقيقي في حياته الدنيا قبل الآخرة، كما يروي الطبراني عَنِ الْحَارِثِ بن مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: (كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثُ)؟ قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا، فَقَالَ: (انْظُرْ مَا تَقُولُ، فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ)؟ فَقَالَ: قَدْ عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، وَأَسْهَرْتُ لِذَلِكَ لِيَلِي، وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَضَاغَوْنَ فِيهَا، فَقَالَ: (يَا حَارِثُ عَرَفْتَ فَالْزَمْ)، ثَلاثًا.

يعني المؤمن الحق صار فرشيّاً عرشيّاً كما يقول أهل التصوف الحقيقيُّون، الذين كان تصوُّفهم تصوُّفاً عملياً حيث يتبعون سلف الأمة الصالح.

وقفة مع هذا الحديث الشريف:

هذا الصحابي الجليل الذي قال لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا، وبرهن على ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وذلك من خلال صيامه وقيامه حتى سَمَتْ روحُه، واتَّصلت بالملأ الأعلى.

هذا الصحابي الجليل الذي أظمأ نهاره وأسهر ليله في تلاوة القرآن العظيم زاده ذلك إيماناً، وعندما زاد إيمانه زهد في الدنيا، ونم زهد فيها لم ينافس فيها أحداً، وسما بأخلاقه التي تجعله أهلاً للقرب من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فهل من مغتنم لهذه الأيام والليالي الأخيرة من شهر رمضان، وذلك بالصيام والقيام وتلاوة القرآن حتى يزداد إيمانه، وتكون هذه الأيام محطَّة تزوُّد بالطاعات لأيام السنة كلِّها؟

أسأل الله تعالى أن يجعل إيماننا إيماناً حقيقياً كأصحاب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن لا نرضى بالإيمان اسماً دون العمل بمستلزماته. كم ترى من الشباب من اسمه أحمد أو محمد أو مصطفى، ولكن ليس له حظٌّ من الإسلام إلا اسمه، فهو لا يحافظ على صلاة ولا صيام، وربما أن تراه مخنَّثاً بحيث لو رأيته في الشارع لا تفرِّق بين ظاهره وظاهر غير المسلمين؟ وكم ترى من الشابات من لم يكن لها من الإسلام حظٌّ إلا الاسم، فتراها سافرة متبرِّجة، وإن تحدَّثت مع واحد منهم يعلِّل تقصيره بأنه صغير، مع أنه دخل سنَّ الرجال، ودخلت المرأة سنَّ النساء، متى يكون رجلاً أهلاً للاتباع، وتكون المرأة أهلاً للاتباع؟

هل هكذا كان أصحاب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

الجواب: قطعاً لا، كان الصغير فيهم رجلاً بكل ما تحتمل كلمة رجل من معنى، وينطبق عليهم قول الله عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}.

فهذا سيدنا أسامة بن زيد رضي الله عنه كان أميراً على جيش فيه الصِّدِّيق والفاروق، وكان عمره لا يتجاوز الثامنة عشر.

وهذا سيدنا سعد بن معاذ رضي الله عنه يحكم في يهود بني قريظة بحكم الله من فوق سبع سماوات ـ بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم ـ.

وأما شبابنا اليوم ـ إلا من رحم ربي عز وجل ـ كيف حالهم؟

يا شباب هذه الأمة كونوا كأصحاب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسجِّلوا لأنفسكم تاريخاً مشرِّفاً، وذلك من خلال زيادة إيمانكم، وزيادتُه تكون بتلاوة القرآن العظيم.

جعلني الله وإياكم من أهل القرآن، وزاد في إيماننا، وشرح صدورنا للإسلام. آمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

**     **     **