60ـ كلمة شهر صفر1433هـ: في أيام الشدائد والمحن غَلِّب المصلحة العامة على المصلحة الخاصَّة

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فيا أيُّها الإخوة الكرام:

مما لا شكَّ فيه أنَّنا ما خُلِقْنَا في هذه الحياةِ الدنيا إلا للاختبار والابتلاء، فالشدائدُ والابتلاءاتُ سنَّة ربَّانية قدَّرها الله تعالى على عباده، فالفردُ يُبتلى كما تُبتلى الأمة، وصدق الله القائل: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُور}.

وقال تعالى: {مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}.

وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيب}.

وممَّا لا يخفى على كلِّ مسلمٍ أنَّ الأمة تمرُّ في أزمةٍ شديدةٍ وصعبةٍ وقاسيةٍ، نسأل الله تعالى أن يجعل عاقبتها إلى خيرٍ ورُشدٍ.

ماذا يجب على المسلم فعله في أيام الشدائد؟

ولكن ماذا يجب على المسلم أن يفعل في أيام الشدائد، بعد الالتجاء إلى الله تعالى الذي هو مفتاحُ الفرج، وبعد كثرةِ الدعاءِ الذي هو مُخُّ العبادة، وبعد العبادة وكثرتِها في أيام الهرج التي تعادل الهجرة إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام مسلم عنْ مَعقِلِ بن يسارٍ، رضي اللَّه عنْهُ، قَالَ: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (العِبَادَةُ في الهَرْجِ كهِجْرةٍ إلَيَّ)؟

الواجب على المسلم أيامِ الفتنِ والشدائدِ أن يُغَلِّبَ المصلحة العامة على المصلحة الخاصَّة، وهذا ما يجب على الأمة أن تَتَعلَّمه من سيرةِ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في صلحِ الحديبية، حيث رَضِيَ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بالشروط القاسيةِ المُجْحِفَة، والتي من جملتها:

أولاً: أن يَرْجِعَ النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إلى المدينة ولا يدخل مكة المكرمة، وعلى أن يقضي عمرته في العام المقبل.

ثانياً: أن يُرْجِعَ النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم كلَّ مسلمٍ جاءه من مكة المكرمة، ولا تُرْجِعَ مكةُ من جاء من المدينة مرتدَّاً. وعلى أن تضع الحرب أوزارها عشرَ سنين.

هنا رجَّح سيدُنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم المصلحةَ العامةَ على المصلحةِ الخاصة، وحَزِنَ الصحابة رضي الله عنهم حزناً شديداً بهذا الصُّلح، حتى رُوِيَ أنَّ سيدنا عمر رضي الله عنه جاء إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم فقال: (يَا رَسُولَ الله أَلَسْت بِرَسُولِ الله؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَلَسْنَا عَلَى الحَقّ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَلَيْسَ عَدُوّنَا عَلَى البَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَلِمَ نُعْطِي الدّنِيّةَ فِي دِينِنَا؟ فقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم: إنّي رَسُولُ الله، وَلَنْ أَعْصِيَهُ، وَلَنْ يُضَيّعَنِي).

ضاقت نفوس المسلمين بهذا الصُّلح، لأنَّهم حُدِّثوا بأنَّهم داخلون البيتَ الحرامَ، وهاهم يرتدون عنه، وعَرَا المسلمينَ وُجُومٌ ثقيلٌ لهذه النهاية الكئيبة.

وعندما مضى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم على شروط الصلح، أمرهم بالنحر ثم التحلُّل، فلم يقم أحدٌ منهم ـ طمعاً بنزول الوحي من الله تعالى ـ فدخل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم على أمِّ سَلَمَةَ، وذكر لها ما لَقِيَ من الناس، فقالت له: (يَا رَسُولَ الله أَتُحِبّ ذَلِكَ؟ اُخْرُجْ ثُمّ لا تُكَلّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتّى تَنْحَرَ بُدْنَك، وَتَدْعُوَ حَالِقَك فَيَحْلِقَكَ، فَقَامَ فَخَرَجَ، فَلَمْ يُكَلّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ، حَتّى فَعَلَ ذَلِكَ، نَحَرَ بُدْنَهُ وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمّا رَأَى النّاسُ ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا، حَتّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمّاً) [رواه البخاري].

نعم أيها الإخوة: لقد رجَّح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم المصلحةَ العامةَ، وذلك في حقن دماء المسلمين، وأن تضعَ الحربُ أوزارَها، على المصلحةِ الخاصةِ من دخول مكة المكرمة لأداء العمرة.

وعندما رُجِّحت المصلحةُ العامةُ على المصلحةِ الخاصةِ في هذا الصلح صار فتحاً كبيراً، كما قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا}.

نعم أيها الإخوة: سلوكُ المسلمِ وقتَ الفتنِ والمحنِ الهروبُ منها، وعدمُ الولوجِ فيها، وعدمُ الاغترار بالنفس، لأنَّ المؤمنَ الصادقَ المتواضعَ هو الذي يخافُ على نفسه من الفتن، ومن خافَ نجا، ومن أَمِنَ هَلَكَ.

فإذا رأيت فتنةً فابتعد عنها، وإيَّاك ومواطنَ الفتنِ والريبِ حتى لا يصلك شيءٌ منها، يقول أبو مُليكة: أدركتُ ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم كلُّهم يخشى النفاق على نفسه.

ويقول سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه: (تكونُ فتنةٌ لا يُنْجِي منها إلا دعاءٌ كدعاءِ الغريقِ).

وفي الختام يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (سَتَكُونُ فِتَنٌ، القَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِن القَائِمِ، وَالقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِن المَاشِي، وَالمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِن السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْهَا مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ) رواه الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ويقول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ المُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِن الفِتَنِ) رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

نسأل الله تعالى أن يحفظ بلدنا وبلاد المسلمين من جميع الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يحقن دماء المسلمين، وأن يكفَّ عنا شرَّ كلِّ ذي شر، وشرَّ كلَّ دابَّةٍ هو آخذٌ بناصيتها إنَّ ربنا على صراط مستقيم. آمين.

              أخوكم أحمد النعسان

يرجوكم دعوة صالحة بظهر الغيب

**    **      **

تاريخ المقال:

الاثنين: 1/صفر/1433 هـ الموافق: 26/كانون الأول/2011م