21ـ كلمات في مناسبات: لم تقول ما لم تفعل؟

 

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

نسألُ اللهَ تعالى أن يُحيِيَنا على سُنَّةِ سيِّدِنا محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ويتوفَّانا على مِلَّتِهِ، ويجعَلَنا من أهلِ شفاعَتِهِ، ويحشُرَنا في زُمرَتِهِ، ويُورِدَنا حَوضَهُ الشَّريفَ، ويسقِيَنا من كأسِهِ غيرَ خَزايا ولا نادمينَ، ولا شاكينَ ولا مُبدِّلينَ ولا مُغَيِّرينَ، ولا فاتنينَ ولا مَفتونينَ. آمين.

أما بعد، فيأيُّها الإخوة الكرام: ما من بلاءٍ نَزَلَ إلا بذنبٍ، ولا يُرفعُ إلا بتوبةٍ صادِقَةٍ، وما أعرَض من أعرَضَ عن ذِكرِ الله تعالى إلا بسببِ نِسيانِ عَرضِهِ على الله تعالى يومَ القيامةِ، فالسَّعيدُ من استَحضَرَ وُقوفَهُ بينَ يَدَيِ الله تعالى، واستقامَ على شرعِ الله تعالى حتَّى يأتِيَهُ الموتُ وهوَ مُستقيمٌ على الصِّراطِ المستقيمِ، وهوَ مُستَحضِرٌ قولَ الله عزَّ وجلَّ لسيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُون * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِين * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين﴾.

اِبدأ بنفسِكَ يا مُريدَ الإصلاحِ:

أيُّها الإخوة الكرام: يجبُ على كلِّ مسلمٍ في هذهِ الظُّروفِ القاسِيَةِ التي تَمُرُّ بها الأمَّةُ أن يبدأ بإصلاحِ نفسِهِ إن كانَ صادقاً في طَلَبِ صلاحِ وإصلاحِ المجتمعِ، لأنَّ المجتمعَ ما هوَ إلا مجموعُ أُسَرٍ، وما الأسرةُ إلا مجموعةُ أفرادٍ، فصلاحُ الفردِ يعني صلاحَ الأسرةِ، وصلاحُ الأسرةِ يعني صلاحَ المجتمعِ.

أيُّها الإخوة الكرام: صلاحُ المجتمعِ يبدأُ من صلاحِ الفردِ، وهذا ما أكَّدَهُ ربُّنا عزَّ وجلَّ في كتابِهِ العظيمِ، عندما ألزمَ ربُّنا تعالى النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بقولِهِ: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِين * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِين * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ الله إِلـهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُون * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُون * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِين * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين﴾. أمرٌ بِمَعروفٍ، وإعراضٌ عن المشركينَ، ثمَّ اشتِغالٌ بالعبادةِ حتَّى يأتِيَكَ الموتُ، وقال تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون﴾. بل أكَّدَ ربُّنا عزَّ وجلَّ هذا الأمرَ بأن يبدأَ العبدُ في إصلاحِ نفسِهِ قبلَ الآخرينَ، حتَّى ولو كانوا أهلَهُ وأولادَهُ، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون﴾.

وهؤلاءِ هُم أصحابُ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُبايِعونَ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على ذلكَ، أخرج الإمام البخاري عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُومَ ـ أَوْ نَقُولَ ـ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا، لَا نَخَافُ فِي الله لَوْمَةَ لَائِمٍ.

وفي رواية الإمام أحمد، عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله رَضِيَ اللهُ عَنهُ قال: قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، عَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: «تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فِي الله لَا تَأْخُذُكُمْ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ يَثْرِبَ، فَتَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ، وَلَكُمْ الْجَنَّةُ» فَقُمْنَا نُبَايِعُهُ.

لِمَ تَقُولُ ما لم تفعل؟

أيُّها الإخوة الكرام: الكلُّ يُنادي بِرَفعِ الظُّلمِ، والكلُّ يُنادي بالإصلاحِ، والكلُّ يرفُضُ الفسادَ، ولكن وبكلِّ أسَفٍ، الكثيرُ لا يترُكُ الظُّلمَ، ولا يترُكُ الفسادَ، ولا يبدأُ بالإصلاحِ، بل ينتظِرُ الآخرينَ، وأظُنُّ أيُّها الإخوةُ أنَّ هذا ليسَ من شأنِ العُقلاءِ.

فيا من أيقنَ بتحريمِ الظُّلمِ والفسادِ، وأيقنَ بوُجوبِ الصَّلاحِ والإصلاحِ، تذكَّر قولَ الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُون * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُون﴾. وتذكَّر قولَ الله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُون﴾؟.

أيُّها الإخوة الكرام: لقد جاءَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لإصلاحِ المجتمعِ، ولِرَفعِ الظُّلمِ عن أفرادِهِ، ولِمُحاربةِ الفسادِ، ولكن هل قرأتُم في سيرَتِهِ العَطِرَةِ أنَّهُ وَقَعَ في ظُلمِ أحَدٍ من خلقِ الله تعالى، سواءٌ كانَ مؤمناً أو كافراً؟ أو أكَلَ مالَ أحدٍ من خلقِ الله تعالى، سواءٌ كانَ مؤمناً أو كافراً؟ أو أخَذَ أحداً بجريمةِ غيرِهِ سواءٌ كانَ من أصولِهِ أو فُروعِهِ؟ أو كَمَّ فَمَ أحدٍ من خلقِ الله تعالى في غيرِ منكرٍ؟ وهل عَثَرَ أحدٌ ـ لا أقولُ من أتباعِهِ، بل من أعدائِهِ ـ في سيرَتِهِ العَطِرَةِ على تناقُضٍ بينَ أقولِهِ التي يدعو النَّاسَ إليها وأفعالِهِ؟ وهل وَقَفَ أحدٌ على أمرٍ أمَرَ به الأمَّةَ قبلَ أن يلتزِمَهُ بذاتِهِ الشَّريفةِ؟ وهل وَقَفَ أحدٌ على نهيٍ نهى عنهُ الأمَّةَ ـ حاشاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ ثمَّ اقتَرَفَهُ؟

بأبي وأمِّي وروحي وما أملِكُ أنتَ يا سيِّدي يا رسولَ الله، لم تَشهَدِ البشريَّةُ مِثلَكَ قبلَكَ، ولن تَشهَدَ مِثلَكَ بعدَكَ، فجزاكَ اللهُ تعالى خيرَ ما جَزَى نبيَّاً عن أمَّتِهِ، لقد كانَ خُلُقُكَ القُرآنُ العظيمُ، كما قالت أمُّنا الطَّاهرَةُ البتولُ الصِّدِّيقةُ بنتُ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنها وعن أبيها، وعن أمَّهاتِنا أمَّهاتِ المؤمنينَ.

أيُّها الإخوة الكرام: بصراحةٍ ووُضوحٍ، حياتُنا مليئةٌ بالمتناقضاتِ، يرى النَّاسُ كلامَنا في وادٍ، وسلوكَنا في وادٍ آخَرَ، وواللهِ هذا ليسَ من صِفاتِ المؤمنينَ، بل هوَ من صِفاتِ المنافقينَ، الكثيرُ يُنادي بِرفعِ الظُّلمِ وهوَ ظالمٌ، ويُنادي بِمُحاربةِ الفسادِ وهوَ فاسِدٌ مُفسِدٌ، ويُنادي بالصَّلاحِ والإصلاحِ وهوَ فاقدٌ الصَّلاحَ والإصلاحَ، ورَحِمَ اللهُ تعالى القائلَ:

و غيرُ تَـقِيٍّ يــأمُرُ الــنَّاسَ بالتُّقَــى    ***   طَبيبٌ يُداوِي النَّاسَ و هوَ سَقيمُ

يَـا أَيُّـهَا الــرَّجُلُ الْــمُعَلِّـمُ غَـــيْرَهُ   ***   هَـلَّا لِـنَفْسِكَ كَـانَ ذَا الـتَّعْـلِـيمُ

وَأَرَاكَ تُــلْقِحُ بِــالـرَّشَـادِ عُــقُولَنَـا  ***   نُصْحاً، وَأَنْتَ مِـنَ الرَّشَادِ عَدِيـمُ

تَصِفُ الدَّوَاءَ مِنَ السِّقَامِ لِذِي الضَّنى  ***   كَــيْمَا يَصِـحَّ بِـهِ وَأَنْـتَ سَـقِـيـمُ

اِبـدأ بـنفسِك فـانْــهَهَا عَــن غَـيَّها   ***   فإذا انـتَـهَـتْ عنـه فـأنتَ حـكيمُ

فَـهُناكَ يُـقْبَلُ إن وَعَـظْـتَ، ويُقتَدَى   ***   بـالقـولِ مـنكَ، ويَـنفَعُ الـتَّعـليمُ

لا تَـنْــهَ عَـنْ خُـلُـقٍ وَتَــأْتِيَ مِـثْـلَـهُ   ***   عَـارٌ عَـلَيْـكَ إذَا فَـعَلْـتَ عَـظِـيمُ

خاتمة نسأل الله تعالى حسنها:

أيُّها الإخوة الكرام: أهلُ الأرضِ من عالمِ الإنسِ والجنِّ طائفتانِ لا ثالثَ لهما، إمَّا صالِحونَ وإمَّا فاسِدونَ، قال تعالى: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ﴾. وقال تعالى مُخبِراً عن قولِ الجنِّ: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً﴾. لنسأل أنفُسَنا: من أيِّ الطَّائِفَتَينِ نحنُ؟ والجوابُ الصَّحيحُ هوَ السُّلوكُ لا القولُ، فمن كانَ على الهَدْيِ الذي جاءَ به سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فهوَ صالِحٌ مُصلِحٌ، وإلا فهوَ فاسِدٌ مُفسِدٌ، ولو نادى بلِسانِهِ إلى الصَّلاحِ والإصلاحِ.

اللَّهُمَّ اجعل كلامَنا حُجَّةً لنا لا علينا، وفَرِّج عن هذهِ الأمَّةِ عاجلاً غيرَ آجلٍ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 22/صفر/1434هـ، الموافق: 4/كانون الثاني/ 2013م