23ـ كلمات في مناسبات: الفوائد من المحنة التي تقع على المسلم

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فمِمَّا لا شكَّ فيه بأنَّ الله تعالى خَلَقَ الخلقَ للاختِبارِ والابتِلاءِ، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُور}. وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوفْ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين}. وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً}.

ومِمَّا لا شكَّ فيه كذلك بأنَّ هذهِ الابتِلاءاتِ والمِحنَ فيها من الحِكمِ ما لا يعلمُهُ إلا الله تعالى، وقد أطلَعَنا الله تعالى على شيءٍ من هذهِ الحِكمِ، وبيَّنَ لنا شيئاً منها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بأحاديثِهِ الشَّريفةِ.

من هذه الحِكمِ:

أولاً: في المِحنةِ والشِّدَّةِ والمُصيبةِ اختِبارٌ للمؤمنِ هل يصبرُ أم لا؟ قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيب}.

ويقول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (إِذَا أَحَبَّ اللهُ قَوْماً ابْتَلاهُمْ، فَمَنْ صَبَرَ فَلَهُ الصَّبْرُ، وَمَنْ جَزِعَ فَلَهُ الجَزَعُ) رواه الإمام أحمد عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

ثانياً: في المِحنةِ والشِّدَّةِ والمُصيبةِ تمييزٌ وتمحيصٌ للعبادِ، قال تعالى: {ما كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}. فبِالمِحنِ والشَّدائدِ تنكشِفُ حقائِقُ الناسِ، ويتميَّزُ الطَّيِّبُ من الخبيثِ، والمؤمِنُ من المنافِقِ، والصَّادِقُ من الكاذِبِ، ورحم الله من قال:

جزى اللهُ الشَّدائِدَ كلَّ خيرٍ *** وإن كانت تُغَصِّصُني بِريقِي

ومَا شُكرِي لهـا إلا لِأنِّي *** عَرَفتُ بها عَدُوِّي مِن صَدِيقي

ثالثاً: في المِحنةِ والشِّدَّةِ والمُصيبةِ تكفيرٌ لِذنوبِ العبدِ ورفعٌ في درجاتِهِ، روى الإمام مسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَا مِنْ شَيْءٍ يُصِيبُ المُؤْمِنَ حَتَّى الشَّوْكَةَ تُصِيبُهُ، إِلا كَتَبَ اللهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً، أَوْ حُطَّتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ).

وروى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: (مَا يَزَالُ البَلاءُ بِالمُؤْمِنِ وَالمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ، حَتَّى يَلْقَى اللهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ).

وفي رواية عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: (يَوَدُّ أَهْلُ العَافِيَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ البَلاءِ الثَّوَابَ، لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيضِ).

رابعاً: في المِحنةِ والشِّدَّةِ والمُصيبةِ دفعٌ للمؤمنِ للتَّضرُّعِ إلى الله تعالى، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُون * فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون}. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُون}. وقال تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأَدْنَى دُونَ العَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون} وقال تعالى: {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون}.

خامساً: في المِحنةِ والشِّدَّةِ والمُصيبةِ دفعٌ للمؤمنِ لِكثرةِ العبادةِ لما فيها من عظيمِ أجرٍ عند الله تعالى، روى الإمام مسلم عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: (العِبَادَةُ فِي الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ).

يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى تعليقاً على هذا الحديث الشريف: المُرَادُ بِالهَرْجِ هُنَا الفِتْنَةُ، وَاخْتِلاطُ أُمُورِ النَّاسِ، وَسَبَبُ كَثْرَةِ فَضْلِ العِبَادَةِ فِيهِ أَنَّ النَّاسَ يَغْفُلُونَ عَنْهَا، وَيَشْتَغِلُونَ عَنْهَا، وَلا يَتَفَرَّغ لَهَا إِلا أَفْرَادٌ. اهـ.

ويقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: إنَّ الفِتَنَ وَالمَشَقَّةَ البَالِغَةَ سَتَقَعُ حَتَّى يَخِفَّ أَمْرُ الدِّينِ وَيَقِلَّ الاعْتِنَاءُ بِأَمْرِهِ، وَلا يَبْقَى لأَحَدٍ اِعْتِنَاءٌ إِلا بِأَمْرِ دُنْيَاهُ وَمَعَاشِ نَفْسِهِ وَمَا يَتَعَلَّق بِهِ، وَمِنْ ثَمَّ عَظُمَ قَدْرُ العِبَادَةِ أَيَّامَ الفِتْنَةِ كَمَا جاءَ في الحديثِ الشريف: (العِبَادَةُ فِي الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ). اهـ.

سادساً: في المِحنةِ والشِّدَّةِ والمُصيبةِ رفعٌ للعبدِ في منزلَتِهِ عند الله تعالى، حيثُ لا ينالُ تلك المنزلةَ إلا بِصبرِهِ في المِحَنِ والشَّدائدِ والمصائبِ، روى الإمام أحمد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: (إِذَا سَبَقَتْ لِلْعَبْدِ مِن اللهِ مَنْزِلَةٌ لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ، ابْتَلاهُ اللهُ فِي جَسَدِهِ أَوْ فِي مَالِهِ أَوْ فِي وَلَدِهِ، ثُمَّ صَبَّرَهُ حَتَّى يُبْلِغَهُ المَنْزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنْهُ).

ونسألُ الله تعالى العفوَ والعافيةَ في الدِّينِ والدُّنيا، وأن لا يُحمِّلنا ما لا طاقةَ لنا به. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 27/صفر /1434هـ، الموافق: 7/كانون الثاني / 2013م