73ـ كلمة شهر ربيع الأول1434هـ: ثمن الورود على الحوض

 

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فيا عباد الله:

هَذا هوَ شَهرُ رَبيعٍ الأوَّل قد أَقبلَ من جَديدٍ، وهوَ يحمِلُ في طيَّاتِهِ ذِكرى عَطِرَةً، يَحمِلُ في طيَّاتِهِ ذِكرى مولِدِ الحبيبِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فيَا مرحَبَاً بشهرٍ وُلِدَ فيهِ الحبيبُ الأعظَمُ سيِّدُنا محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي هوَ حياةٌ لأرواحِنا، وقُوتٌ لقُلُوبِنَا، وعِزٌّ لَنَا في الدُّنيا والآخِرةِ.

يَا مَرحَبَاً بِشَهرٍ قَدِمَ فيهِ مَن قالَ فيهِ مولانا عزَّ وجلَّ: ﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم﴾. قَدِمَ فيهِ مَن قالَ فيهِ مولانا عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين﴾. قَدِمَ فيهِ مَن قالَ فيهِ مولانا عزَّ وجل: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِين﴾. قَدِمَ فيهِ مَن قالَ فيهِ مولانا عزَّ وجلَّ: ﴿قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِين﴾. قَدِمَ فيهِ مَن كانَ دَعوةُ سيِّدِنا إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ إذ قال: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيم﴾. قَدِمَ فيهِ بِبِشارَةِ سيِّدِنا عيسى عليهِ السَّلامُ إذ قال: ﴿وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾. قَدِمَ فيهِ مَن قالت فيهِ أُمُّهُ السَّيِّدةُ آمنةُ، كما أخبَرَنا بذلِكَ الحبيبُ الأعظمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَرَأَتْ أُمِّي أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ مِنْهَا قُصُورُ الشَّامِ» رواه الإمام أحمد عن أَبِي أُمامَةُ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

الواقِعُ المَرِيرُ:

يا عِبادَ الله، لِيَسأل كُلُّ واحِدٍ منَّا نَفسَهُ، هَل أَنا الذي فَرِحَ بِمَقدَمِ هذا الحبيبِ الأعظَمِ سيِّدِنا محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على النَّهجِ الذي جاءَ بهِ صاحِبُ الفِكرةِ، أم على العكسِ من ذلكَ؟

يا عِبادَ الله، الذي يُفرِحُ الحَبيبَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هو تَطابُقُ السُّلوكِ مَعَ القولِ، هُوَ تَأكيدُ الفَرَحِ والسُّرُورِ بالسُّلُوكِ العَمَليِّ، لأنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يقول: «انْظُرْ مَا تَقُولُ؟ فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟» رواه الطبراني عَنِ الْحَارِثِ بن مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

يا عِبادَ الله، لقد وَضَعَنَا سيِّدُنَا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أمَامَ وَصَايا تَضمَنُ لنا سَعادَةَ الدُّنيا والآخِرَة، وتُحقِّقُ لنَا مَصالِحَ الدِّينِ والدُّنيا، فأينَ نحنُ من هذِهِ الوصَايا النَّبويَّةِ؟

لقد تَنَاسَى الكثيرُ مِنَ النَّاسِ هذهِ الوَصايَا، وانطَبَقَ عليهِم قولُ اللهِ تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيَّاً﴾. أينَ نحنُ مِنَ الرَّعِيلِ الأوَّلِ منَ السَّلَفِ الصَّالِحِ منَ المُهاجِرينَ والأنصارِ والذينَ اتَّبعوهُم بِإِحسانٍ؟.

ومَن مِنَّا لم يَسمَع بالحديثِ الصَّحيحِ الذي يقولُ فيهِ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ أَلَا هَلُمَّ، أَلَا هَلُمَّ، أَلَا هَلُمَّ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: فَسُحْقاً، فَسُحْقاً، فَسُحْقاً» رواه الإمامان مسلم و مالك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

فَاصبِرُوا حَتَّى تَلقَونِي عَلَى الحَوضِ:

يا عِبادَ الله، الكُلُّ حَريصٌ على الوُرودِ على الحوضِ، والكُلُّ حريصٌ على أن يَشرَبَ من يَدِ الحبِيبِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، والكُلُّ حريصٌ أن لا يُذادَ عنِ الحَوضِ كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، ولكن تَعلمُونَ أنَّ لِكُلِّ شيءٍ ثَمَنٌ، وثمنُ الجَنَّةِ الاتِّبَاعُ، والجَنَّةُ غالِيَةٌ، كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه التِرمِذيُّ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قالَ: «أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ الْجَنَّةُ».

يا عِبادَ الله، ثَمَنُ الوُرُودِ على الحَوضِ الشَّرِيفِ، والشُّربِ من يَدِهِ الشَّريفَةِ الصَّبرُ عن الأَثَرَةِ، كما جاء في الحديث الذي رواه الطبراني عَنْ أُسَيْدِ بن حُضَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً»، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟، قَالَ: «اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ».

يا عِبادَ الله، اُنظُروا كم غيَّرَ النَّاسُ وبدَّلوا، جاءَنا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بالإِيثارِ، فبدَّلَ النَّاسُ الإيثارَ بالأَثَرَةِ، أمَرَنَا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بالصَّبرِ عندَ الأَثَرَةِ، فبدَّلَ النَّاسُ الصَّبرَ بالضَّجيجِ والأهواءِ والتَّنافُسِ على هذهِ الدُّنيا.

التَّنافُسُ على الدُّنيا:

يا عِبادَ الله، إنَّ سيِّدَنا رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ما كانَ يخافُ على الأُمَّةِ أن تُشرِكَ من بَعدِهِ، ولكن كانَ يخافُ على الأُمَّةِ أن تَتَنافَسَ على الدُّنيَا كما تَنافَسَ عليها طُلَّابُها.

روى الإمامُ البخاري عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْماً فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: «إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ، وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ، وَإِنِّي وَاللهِ لَأَنْظُرُ إِلَى حَوْضِيَ الْآنَ، وَإِنِّي أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الْأَرْضِ، أَوْ مَفَاتِيحَ الْأَرْضِ، وَإِنِّي وَاللهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا».

وفي روايةٍ أخرى للإمامان البخاري ومسلم عن عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قالَ: «وَاللهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ».

وروى الإمام مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلاً مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ، فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيْتٍ ـ أُذُنُهُ صَغيرةٌ ـ فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ ثُمَّ قَالَ: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟».

فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟.

قَالَ: «أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟».

قَالُوا: وَاللهِ لَوْ كَانَ حَيَّاً كَانَ عَيْباً فِيهِ لِأَنَّهُ أَسَكُّ، فَكَيْفَ وَهُوَ مَيْتٌ.

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَوَاللهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ».

خاتمةٌ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَهَا:

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لنُتَرجِمْ عن مَحَبَّتِنَا لِسَيِّدِنَا رسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من خِلَالِ تَطابُقِ السُّلوكِ مَعَ الادِّعاءِ بالمَحَبَّةِ، ولِنُقَدِّمَ ثَمَنَ الوُرُودِ على الحَوضِ بالصَّبرِ في زَمَنِ الأَثَرَةِ، رَاجِينَ المَولى عزَّ وجلَّ أن يُكرِمَنَا باللِّقاءِ مَعَ سَيِّدِنَا رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عندَ الحَوضِ. آمين. وصلَّى اللهُ على سيِّدِنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصَحبِهِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

السبت: 8/ربيع الأول/1434هـ، الموافق: 19/كانون الثاني/ 2013م