72ـ كلمة شهر صفر الخير 1434هـ: هل نحن صادقون في طلب الرحمة؟

 

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فيا عباد الله:

لو ألقينا السَّمعَ وأصغينا إلى حديثِ النَّاسِ في هذهِ الأيامِ العصيبَةِ، فإنَّا نَجِدُ أعظَمَ ما يَتَحَدَّثُ النَّاسُ عنهُ ويطلبُونَهُ منَ اللهِ تعالى هو الرَّحمة.

والكُلُّ يعلَمُ بأنَّ رحمةَ اللهِ تعالى ليسَ لها حدٌّ، وأنَّ رحمةَ اللهِ سَبَقَت غَضَبَهُ.

والكُلُّ يعلمُ بأنَّ من مَظاهِرِ رحمةِ اللهِ تعالى سيِّدَنا محمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، قال تعالى في حقِّهِ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين﴾. وقالَ جلَّت قدرتُهُ: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم﴾. وقالَ تَقَدَّسَت أسماؤُهُ عنهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾.

والكُلُّ يعلمُ حديثَ سيِّدِنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عن ذاتِهِ الشَّريفَةِ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّاناً وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضيَ اللهُ عنه والحديث الذي يقولُ فيهِ: «أَنَا نَبِيُّ التَّوبَةِ وأَنَا نَبِيُّ المَلحَمَةِ» رواه الحكيم عن حذيفَةَ رضيَ اللهُ عنهُ.

والكُلُّ يعلمُ حديثَ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ «أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْناً فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضيَ اللهُ عنه.

والكُلُّ يعلمُ حديثَ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ «إِنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي، مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ» رواه الإمام البخاري عن أنسٍ رضيَ اللهُ عنه.

من لا يَرحَمُ لا يُرحَمُ:

يا عبادَ الله، رحمةُ اللهِ تعالى واسعةٌ، ورحمةُ اللهِ تعالى هيَ مُبتَغى كلِّ مؤمنٍ، فما من مؤمنٍ على وجهِ البَسيطَةِ إلا ويسألُ اللهَ تعالى الرَّحمَةَ، وخاصَّةً في هذهِ الظُّروفِ العصِيَّةِ العصيبةِ التي كَثُرَ فيها الهَرجُ، وتَيتِيمُ الأطفالِ، وتَرمِيلُ النِّساءِ، وتَهدِيمُ البُيوتِ.

ولكن نَسِيَ الكثيرُ من النَّاسِ قانونَ الجَزاءِ الذي جَعَلَهُ الله تعالى سُنَّةً كَونيَّةً، نَسِيَ الكثيرُ أنَّ الجزاءَ من جِنسِ العَمَلِ، نَسِيَ الكثيرُ قولَ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «واعمَل مَا شِئتَ فَإِنَّكَ مَجزِيٌّ بِهِ» رواهُ الحاكم عن أبي حازم رضيَ اللهُ عنهُ.

أيُّها الإخوةُ الكرام: الكثيرُ نَسِيَ أو تَنَاسى حديثَ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي يقولُ فيهِ: «أَوَ أَمْلِكُ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ نَزَعَ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ» رواه الإمام أحمد عن عائِشَةَ رضيَ اللهُ عنها.

أيُّها الإخوةُ الكرام: الكثيرُ نَسِيَ أو تَنَاسى حديثَ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي يقولُ فيهِ: «عُذِّبتِ امْرَأةٌ في هِرَّةٍ حبستها حَتَّى ماتَتْ، فَدَخلَتْ فِيهَا النَّارَ، لا هِيَ أطْعمتْهَا وسقَتْها ، إذ هي حبَستْهَا ولا هِي تَرَكتْهَا تَأكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأرضِ» رواه الإمامان البخاري ومسلم عنِ ابنِ عُمر رضي اللهُ عنْهُما.

هل سَمِعَ هذا الحديثَ مَن مَنَعَ النَّاسَ من أن يُهاجِروا في أرضِ اللهِ الواسِعَةِ؟ هل سَمِعَ هذا الحديثَ مَن مَنَعَ النَّاسَ من الدُّخولِ إلى بلدَةٍ ثانِيَةٍ لعلَّهُ أن يَجِدَ فيها مأوىً وطعاماً وشراباً وداوءً؟ هل سَمِعَ هذا الحديثَ الشَّريفَ من ولَّاهُ اللهُ تعالى أمرَ بعضِ المؤمنينَ؟

لا تُنزعُ الرَّحمةُ إلا من شقيٍّ:

يا عبادَ اللهِ، حقَّاً لا تُنزعُ الرَّحمةُ إلا من شقيٍّ، حقَّاً لا تحلُّ القوَّةُ في قلبٍ بعيدٍ عنِ اللهِ تعالى، حقَّاً صاحِبُ القلبِ الحقودِ الحسودِ لن يَسودَ، وإن سَادَ كانت سِيادَتُهُ وبالاً عليهِ في الدُّنيا قبلَ الآخرَةِ، عَرَفَ هذا مَن عَرَفَ وجَهِلَهُ من جَهِلَهُ.

من نُزِعت من قَلبِهِ الرَّحمَةُ فهوَ بعيدٌ عن نَهْجِ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ولو تظاهَرَ بالاتباعِ والاقتداءِ، وهوَ ليس على طريقِ سيِّدِنا محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

فيا مَن امتلأ قلبُهُ حقداً وغِلاً وهوَ مِمَّن يَتظاهَرُ بالاتِّباعِ، هل تذكُرُ حديثَ  سيِّدِنا رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي يرويهِ الإمامُ البخاري عن عَبْدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنهُ قال: (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّاً مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»)؟.

هل نحنُ صادقونَ في طَلَبِ الرَّحمةِ:

يا عبادَ الله، كُلُّنا يسألُ اللهَ تعالى أن يكشِفَ الغُمَّةَ عن هذهِ الأُمَّةِ، ولكن أقولُ: هل نحنُ صادقونَ في طلبِ الرَّحمةِ؟ فإن كنَّا صادقينَ في طلبِ الرَّحمةِ فلنتراحم.

لِنرحَمِ اليَتامى، وأرجو الله تعالى أن لا نكونَ سبباً في يُتمِهِم، ولِنرحَمِ الأرامِلَ، وأرجو الله تعالى أن لا نكونَ سبباً في ترمِيلِهِم، ولِنرحَمِ الجرحى، وأرجو الله تعالى أن لا نكونَ سبباً في جِراحِهِم، و لِنرحَمِ النَّازِحينَ، وأرجو الله تعالى أن لا نكونَ سبباً في نُزوحِهِم، و لِنرحَمِ الجائعينَ العارينَ، وأرجو الله تعالى أن لا نكونَ سبباً في جُوعِهِم وعُريِّهِم، و لِنرحَمِ الخائِفينَ المُرَوَّعينَ، وأرجو الله تعالى أن لا نكونَ سبباً في خَوفِهِم وترويعِهِم.

خاتمة نسألُ اللهَ تعالى حُسنَها:

يا عبادَ الله، أتريدونَ كشفَ الغُمَّةِ؟ أتريدونَ رفعَ هذا الضَّغطِ عنكم؟ أتريدونَ رفعَ الظُّلمِ عنكم؟ أتريدونَ الفَرَجَ والخُروجَ من هذا الضِّيقِ؟ إذاً تَراحَموا، ليرحَمِ الكُلُّ الكُّلَّ، فبِرَحمَتِكُم لأنفُسِكم ولغيرِكُم سَيَرحَمُكُمُ اللهُ تعالى ويُبعِدُ عنكمُ الظَّالمينَ الذين امتلأت قُلوبُهُم قَسوةً وعُتوَّاً وظُلماً وإجراماً.

يا عبادَ الله، أظهِروا حقيقةَ إسلامِكم من خلالِ قولِ الله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظَّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾.

يا عبادَ الله، إذا لم نَتَحلَّ بأخلاقِ سيِّدِنا رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فوَ اللهِ لن نستطيعَ أن ندعوَ الناسَ للإسلامِ، فَلْنَلْبَس ثوبَ الرَّحمةِ من فَرْقِنا إلى قَدَمِنا، ليكن كلُّ عضوٍ فينا مُتَحَلِّياً بالرَّحمةِ، لِتَكُن يَدُنا رحيمةً، وكذلكَ لِسانُنَا وعينُنَا ورِجلُنَا، وكلُّ ذرَّاتِنَا، فبالرَّحمةِ ندفعُ هذهِ الشِّدَّةَ بإذنِ اللهِ تعالى.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 1/صفر/1434هـ، الموافق: 14/كانون الأول/ 2013م