26ـ كلمات في مناسبات: لا تجعل مالك حسرة عليك يوم القيامة

 

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فيا عباد الله:

تعلمونَ أنَّهُ ما من نِعمةٍ يُسبِغُها اللهُ تعالى على عِبادِهِ إلا لِيَجعَلَها وسيلةً لِمَرضاتِهِ، ومن جملةِ هذهِ النِّعَمِ نِعمةُ المالِ، فإمَّا بِنِعمةِ المالِ يكونُ العبدُ في أعلى المنازِلِ وأطيبِها يومَ القيامةِ، وإمَّا أن يكونَ في أحَطِّ الدَّركاتِ وأخبثِها.

روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ، عَبْدٌ رَزَقَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لله عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ حَقَّهُ، فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عِلْماً وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مَالٌ عَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ، فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلَا يَعْلَمُ لله فِيهِ حَقَّهُ، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٌ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مَالاً وَلَا عِلْماً فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مَالٌ لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ، هِيَ نِيَّتُهُ، فَوِزْرُهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ».

لِيَسأل كلُّ واحدٍ منَّا نفسَهُ: هل جَمَعَ العِلمَ إلى جنبِ المالِ الذي رَزَقَهُ اللهُ تعالى إيَّاهُ، سواءٌ كانَ المالُ قليلاً أم كثيراً؟ أم فَرِحَ بِنِعمةِ المالِ ولو كانَ جاهلاً لا يَعرِفُ لله تعالى فيه حقَّاً، ولا يَصِلُ فيه رَحِماً؟

يومُ القيامةِ يومٌ ذو حَسَراتٍ:

أيُّها الإخوة الكرام: السَّعيدُ من اغتَنَمَ نِعمةَ المالِ في حَياتِهِ، وسَمِعَ حديثَ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اِغتَنِم خَمساً قبلَ خمسٍ» وعدَّ منها: «وَغِناءَكَ قبلَ فَقرِكَ» رواه الحاكم عن ابن عباسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما. وإلا فسوفَ يتحسَّرُ عندَ سَكَراتِ الموتِ وما بعدَها، قال تعالى: ﴿وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ﴾.  

مَرِضَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الأَهْتَمِ ، فَأَتَاهُ رَجُلانِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ يَعُوِدَانِهِ ، فَلَمَّا أَنْ دَخَلا عَلَيْهِ ، قَالا : كَيْفَ تَجِدُكَ يَا أَبَا مَعْمَرٍ ؟ قَالَ : أَخَذَنِي وَاللَّهِ وَجَعٌ ، وَمَا أَظُنُّنِي ، إِلا لِمَا بِي.

وَلَكِنْ مَا تَقُولانِ فِي مِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فِي الصُّنْدُوقِ لَمْ تُؤَدَّ مِنْهَا زَكَاةٌ ، وَلَمْ تُوصَلْ رَحِمٌ ؟ فَقَالا لَهُ : ثَكَلَتْكَ أُمُّكَ، لِمَنْ كُنْتَ تَجْمَعُهَا ؟ قَالَ : كُنْتُ اللهِ أَجْمَعُهَا لِرَوْعَةِ الزَّمَانِ ، وَجَفْوَةِ السُّلْطَانِ ، وَمُكَابَرَةِ الْعَشِيرَةِ.

فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ فَأَتَيَا الْحَسَنَ بْنَ أَبِيِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، فَأَخْبَرَاهُ بِذَلِكَ ، فَقَالَ : الْبَائِسُ إِنَّمَا أَتَاهُ شَيْطَانُهُ فَذَكَّرَهُ ، رَوْعَةَ زَمَانِهِ ، وَجَفْوَةَ سُلْطَانِهِ ، فَخَرَجَ وَاللَّهِ مِنْ مَالِهِ جَرِيباً سَلِيباً ذَمِيماً مَلُوماً، فَلَمَّا أَنْ مَاتَ دَعَا ابْنَهُ فَمَسَحَ يَدُهُ عَلَى رَأَسِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ : إِيهاً عَنْكَ أَيُّهَا الْوَارِثُ لا تُخْدَعْ كَمَا خُدِعَ صُوَيْحِبُكَ أَمَامَكَ ، فَقَدْ أَتَاكَ هَذَا الْمَالُ حَلالاً، فِإِيَّاكَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْكَ وَبَالاً، أَتَاكَ مِمَّنْ كَانَ لَهُ جَمُوعًا مَنُوعاً، يَدْأَبُ فِيهِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ، وَيَقْطَعُ فِيهِ لُجَجَ الْبِحَارِ وَالْمَفَاوِزِ وَالْقِفَارِ ، وَمِنْ بَاطِلٍ جَمَعَهُ وَمِنْ حَقٍّ مَنَعَهُ ، جَمَعَهُ فَأَوْعَاهُ ، وَشَدَّهُ فَأَوْكَاهُ لَمْ يُؤَدِّ مِنْهُ زَكَاةً، وَلَمْ يَصِلْ مِنْهُ رَحِماً، إِنَّ أَعْظَمَ الْحَسَرَاتِ يَوْمَ الْقَيَامَةِ أَنْ يَرَى الرَّجُلُ مَالَهُ فِي مِيزَانِ غَيْرِهِ ، فَيَا لَهَا حَسْرَةٌ لا تُقَالُ، وَتَوْبَةٌ لا تُنَالُ. ا.هـ.

فيا أيُّها الوارِثُ: لا تَكُن كمُوَرِّثِكَ إذا كانَ لا يعرِفُ لله تعالى حقَّاً في المالِ، ولا يَصِلُ فيهِ رَحِماً، وإلا فسوفَ تندمُ كما نَدِمَ مُوَرِّثُكَ.

تصدَّقتَ فأمضَيتَ:

أيُّها الإخوة الكرام: نسألُ اللهَ تعالى أن يجعلَ كلامَ سيِّدِنا محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حُجَّةً لنا لا علينا، فقد قالَ لنا الصَّادِقُ المَصدوقُ الذي لا ينطِقُ عن الهوى إنْ هوَ إلا وحيٌ يُوحى: «يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، قَالَ: وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ» رواه الإمام مسلم عَنْ مُطَرِّفٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

من أخَذَ بهذا الحديثِ في هذهِ الآوِنةِ العَصيبةِ التي يمُرُّ بها المسلمونَ؟ من أمضى من مالِهِ لآخِرَتِهِ قبلَ خُروجِهِ من الدُّنيا، وهوَ يستحضِرُ قولَ الله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِين﴾؟ سل نفسَكَ ما قدَّمتَ لآخِرَتِكَ؟ وما تركتَ من ذِكرٍ بعدَ موتِكَ؟

اِبحثُوا أيُّها الإخوةُ الكرام في أيَّامِ المِحنةِ التي يمُرُّ فيها بلدُنا الحبيبُ عن الفئَةِ التي قالَ اللهُ تعالى عنها: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيم﴾.

وتذكَّروا قولَ سُفيانَ الثَّوريَّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى عندما قالَ للسَّائِلِ: مرحباً بمن جاءَ يغسِلُ ذُنوبي. وقولَ الفُضيلِ بنِ عِياض رَحِمَهُ اللهُ تعالى: نَعم، السَّائِلونَ يَحمِلُونَ أوزَارَنَا إلى الآخرةِ بغيرِ أُجرَةٍ حتَّى يَضَعوُهَا في المِيزَانِ.

هل تعتبرُ المالَ مَغنماً أم مَغرماً؟

أيُّها الإخوة الكرام: هل نعتبرُ المالَ مَغنماً أم مَغرماً؟ من اعتبَرَهُ مَغنماً فَرِحَ بِقُدومِهِ وحَزِنَ بِذَهابِهِ، ومن اعتبَرَهُ مَغرماً فَرحَ بِإعراضِهِ وحَزِنَ بِقُدومِهِ.

سيِّدُنا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ولَّى سعيدَ بنَ عامرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أميراً على حِمصَ، فلمَّا قَدِمَ الشَّامَ طافَ بكورِها حتَّى نَزَلَ حِمصاً فقال: اُكتُبوا لي أسماءَ فُقرائِكُم حتَّى أسُدَّ حاجَتَهُم.

فَرَفَعوا كِتاباً فإذا فيه: فُلانُ وفُلانُ، وسعيدُ بنُ عامِرٍ.

فقال: ومن سعيدُ بنُ عامِرٍ؟

فقالوا: أميرُنا.

قال: أميرُكُم فَقيرٌ؟!

قالوا: نعم، وواللهِ إنَّهُ لَتَمُرُّ عليهِ الأيَّامُ الطِّوالُ ولا يُوقَدُ في بيتِهِ نارٌ.

فَبَكَى عُمَرُ حتَّى بَلَّلَت دُموعُهُ لِحيَتَهُ، ثمَّ عَمَدَ إلى ألفِ دينارٍ فَجَعَلَها في صُرَّةٍ وقال: اِقرؤوا عليهِ السَّلامَ مِنِّي، وقولوا له: بَعَثَ إليكَ أميرُ المؤمنينَ بهذا المالِ تَستعينُ به على قَضاءِ حاجاتِكَ.

جاءَ الوفدُ لسعيدٍ بالصُّرَّةِ فَنَظَرَ إليها فإذا هيَ دَنانيرُ، فَجَعَلَ يُبعِدُها عنهُ، وهوَ يقولُ: إنَّا للهِ وإنَّا إليه راجعونَ، كأنَّما نَزَلَت به نازِلَةٌ أو حَلَّ بِسَاحَتِهِ خَطْبٌ.

فَهَبَّت زوجَتُهُ مَذعورةً، وقالت: ما شأنُكَ يا سعيدُ؟! أماتَ أميرُ المؤمنينَ؟!

قال: بل أعظَمُ من ذلك.

قالت: أَأُصيبَ المسلمونَ في وَقْعَةٍ؟!

قال: بل أعظَمُ من ذلك.

قالت: وما أعظَمُ من ذلك؟

قال: دَخَلَتْ عليَّ الدُّنيا لِتُفسِدَ آخِرَتي، وحَلَّتِ الفِتنَةُ في بَيتي.

قالت: تَخَلَّص منها ـ وهيَ لا تَدري من أمْرِ الدَّنانيرِ شيئاً ـ

قال: أوَ تُعينينَنِي على ذلك؟

قالت: نعم.

فَأَخَذَ الدَّنانيرَ فَجَعَلَها في صُرَرٍ، ثمَّ وَزَّعَها على فُقراءِ المسلمينَ.

خاتمةٌ نسألُ اللهَ تعالى حُسنها:

أيُّها الإخوة الكرام: اِجمعوا مع نِعمةِ المالِ نِعمةَ العِلمِ، وتذكَّروا حديثَ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِناً فِي سِرْبِهِ، مُعَافىً فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا» رواه الترمذي عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ الله رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

وعُودوا بِفَضلِكُم من المالِ على من لا فَضلَ له، وأنتم ترجونَ اللهَ تعالى أن تكونوا في أطيبِ المنازِلِ.

ولا تجعلوا همَّكُمُ المالَ، لأنَّهُ مالَ بِأصحابِهِ عن جادَّةِ الصَّوابِ، وجَعَلَهُم في أخبثِ المنازِلِ يومَ القيامةِ، وانتَفَعَ منه وَرَثَتُهُم، وجَعلوهُ في ميزانِ حَسَناتِهِم.

 أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 27/ربيع الأول /1434هـ، الموافق: 7/شباط / 2013م