30ـ كلمات في مناسبات: هل تحب الموت أم تبغضه؟

 

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فيا أيُّها الإخوةُ الكرامُ: لا بُدَّ لكُلِّ واحدٍ منَّا أن يسأَلَ نَفسَهُ، هل أحبَّ الموتَ أم أبغَضَهُ؟ مع أنَّ الموتَ آتٍ لا مَحَالَةَ، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون﴾ وقال تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُون﴾. وقال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان﴾ وقال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ﴾وقال تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾.

وفي الحديث الشريفِ «عِشْ مَا شِئتَ فَإِنَّكَ مَيِّت» رواه الحاكم عن سهلٍ بن سعدٍ رضيَ الله عنهُ. وحَضرةُ سيِّدِنا رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَأمُرُنَا بِكثرَةِ ذِكرِ الموتِ، فيقولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ» يَعني المَوْتَ، رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضيَ الله عنهُ.

فمَن أحبَّ الموتَ أكثَرَ مِن ذِكرِهِ، ومَن كَرِهَهُ كَرِهَ ذِكرَهُ، ولا يَذكُرَهُ إلا قليلاً، وإن ذُكِرَ الموتُ في مجلسٍ كَرِهَ ذِكرَهُ وتَضايَقَ مِن ذِكرِهِ، والسِّرُّ في ذلكَ عدمُ الاستعدادِ لهُ، وقِلَّةُ الطَّاعاتِ وكَثرَةُ الذُّنوبِ والمُخالَفاتِ.

العاقِلُ يَعمَلُ لِمَا بعدَ الموتِ:

أيُّها الإخوةُ الكرامُ: شأنُ العُقلاءِ والكاملينَ من أهلِ الإيمانِ أن يُذَكِّروا أنفُسَهم بالموتِ، ويُذَكِّرونَ من يُحبُّونَهُم، وإذا عايَنُوا الموتَ فَرِحُوا واستَبشَرُوا، فهذا سيِّدُنا بلالٌ رضيَ الله عنهُ لمَّا احتَضَرَ نَادَتِ امرَأَتُهُ: واحُزنَاهُ! فقالَ: وَاطَرَبَاهُ غداً أَلقَى الأَحِبَّةَ مُحَمَّدَاً وَصَحبَهُ.

شأنُ العُقلاءِ إذا جاءَهُم مَلَكُ المَوتِ فَرِحُوا بِلِقائِهِ لأنَّهُ الوَاسِطَةُ بَينَهُم وبينَ مولاهُم، وذلكَ بِنَقلِهِم من دارِ الفَناءِ إلى دارِ البَقاءِ التي فيها رُؤيَةُ اللهِ تعالى لأهلِ الجَنَّةِ، قالَ تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة﴾.

شأنُ العُقلاءِ يُحبُّونَ مَلَكَ الموتِ الذي لا يَعصِ اللهَ فيمَا أمَرَ، ويَفعلُ ما يأمُرُهُ مولاهُ عز وجل، فهلِ العبدُ الطَّائِعُ يكونُ مَكروهاً؟ قد يكونُ مَكروهاً عندَ أهلِ المَعصيَةِ، أمَّا عندَ أهلِ الطَّاعةِ فإنَّهُم يُحبُّونَ المُطيعَ ويَكرَهونَ أهلَ المَعصِيَةِ، لذلِكَ ترى هؤلاءِ العُقلاءَ يُحِبُّونَ مَلَكَ المَوتِ.

شأنُ العُقلاءِ أنَّهُم يَعمَلونَ لما بعدَ الموتِ، لأنَّهُم سَمِعوا قولَ سيِّدِنا رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وهو يقول: «الكَيِّس مَنْ دَانَ نَفْسَهُ ، وَعَمِلَ لِما بَعْدَ الْموْتِ ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَه هَواهَا ، وتمَنَّى عَلَى اللَّهِ الأماني » رواه التِّرْمِذيُّ عن شدَّادِ بن أوسٍ رضيَ الله عنهُ.

وصِيَّةُ الصِّدِّيقِ للفاروقِ رَضِيَ اللهُ عنهُما:

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: هذا سيِّدُنا الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ تعالى عنهُ، يُذَكِّرُ سيِّدَنا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ بالاستِعدادِ للموتِ وما بعدَهُ مع جَلالةِ قدرِهِما.

وجاء في الوصِيَّةِ: اعْلَمْ أَنَّ لِلهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي النَّهَارِ حَقَّاً لا يَقْبَلُهُ فِي اللَّيْلِ، وَاعْلَمْ أَنَّ للهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي اللَّيْلِ حَقّاً لا يَقْبَلُهُ فِي النَّهَارِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لا تُقْبَلُ نَافِلَةٌ حَتَّى تُؤَدَّى الْفَرِيضَةُ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ ذَكَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ، فَيَقُولُ الْقَائِلُ: أَيْنَ يَقَعُ عَمَلِي مِنْ عَمَلِ هَؤُلاءِ؟ وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ تَجَاوَزَ عَنْ سَيِّئِ أَعْمَالِهِمْ فَلَمْ يُثَرِّبْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ ذَكَرَ أَهْلَ النَّارِ بِأَسْوَأِ أَعْمَالِهِمْ، وَيَقُولُ قَائِلٌ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَؤُلاءِ عَمَلاً، وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ أَحْسَنَ أَعْمَالِهِمْ فَلَمْ يَقْبَلْهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ آيَةَ الرَّخَاءِ عِنْدَ آيَةِ الشِّدَّةِ، وَآيَةَ الشِّدَّةِ عِنْدَ آيَةِ الرَّخَاءِ، لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُ رَاغِباً رَاهِباً، لِئَلَّا يُلْقِيَ بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ ، وَلا يَتَمَنَّى عَلَى اللهِ إِلا الْحَقَّ، وَاعْلَمْ أَنَّمَا ثَقُلَتْ مَوَازِينُ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمُ الْحَقَّ فِي الدُّنْيَا وَثِقَلِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَاعْلَمْ أَنَّمَا خَفَّتْ مَوَازِينُ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمُ الْبَاطِلَ فِي الدُّنْيَا وَخِفَّةِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ أَنْتَ قَبِلْتَ وَصِيَّتِي هَذِهِ، فَلا يَكُونُ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنَ الْمَوْتِ وَلا بُدَّ مِنْ لِقَائِهِ، وَإِنْ أَنْتَ ضَيَّعْتَ وَصِيَّتِي هَذِهِ، فَلا يَكُونَنَّ شَيْءٌ أَكْثَرَ حُبَّاً إِلَيْكَ مِنَ الْمَوْتِ وَلَسْتَ بِمُعْجِزِهِ.

ما يُستفادُ من هذهِ الوصِيَّةِ؟

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: تأمَّلوا في هذهِ الوصِيَّةِ من هذينِ الشَّيخَينِ رَضِيَ اللهُ عنهُما، واستخرِجوا منها ما يُصلِحُ شأنَكُم، ومن جملة الفوائِدِ:

أولاً: أهمِّيَّةُ الشُّورى في الإسلامِ، ومن أرادَ الاستِشارةَ فلتكُن مع من يخافُ اللهَ تعالى، وليكُن من أهلِ العِلمِ والتَّقوى والصَّلاحِ.

ثانياً: النَّظرةُ إلى الإمارةِ بأنَّها مَغرمٌ، وليست مَغنماً.

ثالثاً: مَحَبَّةُ الموتِ، لأنَّهُ همزةُ الوصلِ بينَ المُحِبِّ والمَحبوبِ الذي سَبَقَ أمَّتَهُ إلى الآخِرَةِ.

رابعاً: أهمِّيَّةُ الدُّعاءِ للرَّاعي وللرَّعيَّةِ.

 خامساً: الوصِيَّةُ بالتَّقوى لله عزَّ وجلَّ لأهلِ التَّقوى ولِغَيرِهِم.

سادساً: أهلُ التَّقوى والصَّلاحِ سَريرَتُهُم كعَلانِيَتِهِم، وخَلوتُهُم كجَلوَتِهِم، بل سَرائِرُهُم أصلحُ من عَلانِيَتِهِم، وخَلوَتُهُم أصفى من جَلوَتِهِم، وحديثُهُم وجهٌ واحِدٌ، لأنَّهُم يُراقِبونَ اللهَ تعالى القائلَ: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾. والقائل: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى﴾. والقائل: ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم﴾.

سابعاً: إيَّاكَ أن تغُصَّ بِريقِكَ إذا قيلَ لك: اِتَّقِ اللهَ، وتذكَّر قولَ الله تعالى لسيِّدِ أهلِ التَّقوى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ﴾.

ثامناً: يجبُ علينا أن نُذَكِّرَ بعضَنا البعضَ بِيَومِ العَرضِ، لأنَّ الكثيرَ من نَسِيَ آياتِ الله تعالى وأعرضَ عنها، لأنَّهُ نَسِيَ يومَ العرضِ على الله تعالى.

خاتمةٌ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَها:

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: عَودٌ على بَدءٍ، سل نفسكَ هل أنتَ تُحِبُّ الموتَ أم تُبغِضُهُ؟ فإذا كنتَ تُحِبُّ الموتَ فأكثِر من ذِكرِهِ، ومن أحبَّهُ وأكثَرَ من ذِكرِهِ كانَ حريصاً على أداءِ الفرائِضِ أولاً، ثمَّ ازدادَ قُرباً إلى الله تعالى بالنَّوافِلِ.

من أحبَّ الموتَ وأكثَرَ من ذِكرِهِ كانَ حريصاً على مِيزانِهِ، فَثَقَّلَهُ بالطَّاعاتِ.

من أحبَّ الموتَ وأكثَرَ من ذِكرِهِ كانَ على حَذَرٍ من الجَورِ والظُّلمِ.

من أحبَّ الموتَ وأكثَرَ من ذِكرِهِ كانَت عِندَهُ الرَّغبةُ والرَّهبةُ.

من أحبَّ الموتَ وأكثَرَ من ذِكرِهِ كانَ عِندَهُ الرَّجاءُ والخَوفُ من الله تعالى.

اللَّهُمَّ اجعَلنا ممَّن أحبَّ الموتَ وأكثَرَ من ذِكرِهِ، واستعدَّ له ولما بعدَهُ، اللَّهُمَّ هَوِّن علينا سَكَراتِ الموتِ واجعَلنا من النَّاطِقينَ بالشَّهادَتَينِ عِندَ الغَرغَرَةِ يا أرحمَ الرَّاحمينَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 27/ربيع الأول /1434هـ، الموافق: 7/شباط / 2013م