74ـ كلمة شهر ربيع الثاني 1434هـ: يا أيها الناس تذكروا ما ينتظركم

 

المقدمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فأيُّهَا الإخوَةُ الكرام: ونحنُ نعيشُ في وَسَطِ هذهِ الأزمةِ التي تمرُّ على أُمَّةِ سيِّدِنا رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، والتي أسألُ اللهَ تعالى أن يكشِفَهَا عاجلاً غيرَ آجلٍ أقولُ:

يا أيُّهَا النَّاسُ تذكَّرُوا ما يَنتظِرُكُم:

أولاً: يقولُ الله تباركَ وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيم * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيد﴾.

ثانياً: يقولُ الله تباركَ وتعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُون * مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُون * لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُون * قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم﴾.

ثالثاً: يقولُ الله تباركَ وتعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُون * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيم﴾.

رابعاً: يقولُ الله تباركَ وتعالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾.

خامساً: يقولُ الله تباركَ وتعالى: ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً﴾.

لا يشغلنَّكم الحَدَثُ مِمَّا يَنتَظِرُكُم:

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: يومُ القيامَةِ آتٍ لا مَحالَةَ، ولئِن أَقسَمَ البَعضُ جَهدَ أيمانِهِم لا يبعثُ اللهُ من يموتُ، فنحنُ نُقسِمُ جَهدَ أَيمانِنَا بأنَّ الله سَيَبعَثُ من يموتُ، وبعدَ البَعثِ حِسابٌ، كلُّ واحِدٍ سيرى ما قدَّمَ إن خيراً فخير، وإن شرَّاً فشر، فلا يشغلنَّكُمُ الحَدَثُ في هذهِ الأيامِ عمَّا ينتَظِرُكُم.

السَّعيدُ من حاسَبَ نَفسَهُ قبلَ أن يُحاسَبَ وَوَزَنَ عَمَلًهُ قبلَ أن يُوزن، وتأمَّلَ في تَتابُعِ الليلِ والنَّهار، وتَسارع الأيامِ والشهورِ والأعوامِ، وعَلِمَ أنَّ ذلكَ من عُمرِهِ.

السَّعيدُ من خلا بِنفسِهِ وفكَّرَ فيما مضى، فإن وجدَ نفسَهُ أنَّهُ قد أحسَنَ فليستَمِرَّ في الحُسنى، وليذكر حديث سيدِنا رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «عَرَفْتَ فَالْزَمْ». وليذكر قول الله تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين﴾.

وإن وَجَدَ نفسَهُ أنَّهُ فَرَّطَ في جنبِ اللهِ تعالى وسَهَا وغَفَلَ عنِ المَهمَّةِ التي خُلِقَ من أجلِها، فالفُرصَةُ لا تَزالُ معهُ إذا نَدِمَ على ما مَضى، وعَقَدَ العزمَ على الجِدِ فيما بقيَ، وربُّكَ أعلمُ بالمُنتهى.

من وَجَدَ نَفسَهُ أنَّهُ قد أسرَفَ فليُبادِر إلى التَّوبَةِ فَبِهَا يُغفرُ له ما مَضى، وإلا فسوفُ يُسألُ عمَّا مَضى وحَضَرَ، ورأى بعضُ الصَّالحينَ رجلاً بَلَغَ من العُمُرِ عِتيَّاً، فقال له: هل تدري أنَّك أوشكتَ الوصول؟ قال: إلى أينَ؟ قال: إلى القَبرِ، قال: إنَّا للهِ وإنَّا إليهِ راجعون. قال: هل تَعي ما تَقولُ؟ قال: ماذا؟ قالَ: من عَلِمَ أنَّهُ للهِ عَرَفَ نَفسَهُ أنَّهُ مَملوكٌ وعبدٌ، ومَن عَلِمَ أنَّهُ إلى اللهِ راجعٌ أحسَنَ العَمَلَ. قال: ما المَخرَج؟ قال: أحسِن فيما بَقيَ يغفر لك ما مَضى، وإلا فسوفَ تُسألُ عمَّا مضى وبَقِي.

يا أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: استغلُّوا الوقتَ رَغمَ شِدَّتِهِ وقَسوَتِهِ بالعبادةِ للهِ عزَّ وجل، وتذكَّروا قولَ سيِّدِنا رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ» رواه الإمام مسلم عنْ مَعقِلِ بن يسارٍ رضي اللَّه عنْهُ.

واءَ الغفلةِ اليَقَظَةُ:

يا أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: وراءَ الغَفلةِ عمَّا ينتَظِرُنا هو اليَقَظَةُ، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُون﴾. وهذا هوَ وصفُ المُتَّقينَ.

وإذا نَزَعَ الشَّيطانُ واحداً منَّا فالاستعاذَةُ باللهِ تعالى خيرُ عاصِمٍ لهُ، قال تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم﴾. وإذا سَيطرتِ الغَفلَةُ والشَّهوَةُ والهوى على القَلبِ فالذِّكرى تَنفَعُ أهلَ الخَشيَةِ، وإلا صارَ العبدُ شَقيَّاً، قال تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى﴾. وتنفَعُ أهلَ الإيمانِ، قال تعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِين﴾.

وإذا كانَ سبَبُ الغَفلَةِ عمَّا يَنتَظِرُنَا طولُ الأملِ فتلكَ آفةُ الآفاتِ التي حذَّرَ اللهُ تعالى عبادَهُ المؤمنينَ منها بقولِهِ: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُون﴾.

رَحِمَ اللهُ أقوماً خافوا فأدلَجوا:

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: رَحِمَ اللهُ أقواماً خافوا ما يَنتَظِرُهُم فأدلَجوا وأسرَعوا في امتِثالِ أمرِ رَبِّهِم، وسارعوا في الخَيراتِ، وسَارَعوا إلى جنَّةٍ عَرضُهَا السَّمواتُ والأرض، وأعرضوا عنِ الدُّنيا وأهلِها، فعاشوا للآخرَةِ ولن تَنفَعَهُمُ الدُّنيا، ورَحِمَ اللهُ أقواماً سمعوا حديثَ سيِّدِنا رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي رواه الإمام الترمذي عن أبي هريرةَ  رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزلَ، ألا إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ غَاليةٌ، أَلا إِنَّ سِلْعةَ اللهِ الجَنَّةُ».

عَنْ رَجِلٍ مِنْ هَمَذَانَ، قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ لِضِرَارٍ الصُّدَائِيِّ: يَا ضِرَارُ، صِفْ لِي عَلِيّاً ، قَالَ: أَعْفِنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: لَتَصِفَنَّهُ، قَالَ: أَمَّا إِذَا لَا بُدَّ مِنْ وَصْفِهِ: فَكَانَ وَاللهِ بَعِيدَ الْمَدَى، شَدِيدَ الْقُوَى يَقُولُ فَصْلاً، وَيَحْكُمُ عَدْلاً، يَتَفَجَّرُ الْعِلْمُ مِنْ جَوَانِبِهِ، وَتَنْطِقُ الْحِكْمَةُ مِنْ نَوَاجِذِهِ، يَسْتَوْحِشُ مِنَ الدُّنْيَا، وَزَهْرَتِهَا، وَيَسْتَأْنِسُ مِنَ اللَّيْلِ وَوَحْشَتِهِ، وَكَانَ وَاللهِ غَزِيرَ الْعَبْرَةِ، طَوِيلَ الْفِكْرَةِ، وَيُقَلِّبُ كَفَّهُ، وَيُخَاطِبُ نَفْسَهُ، يُعْجِبُهُ مِنَ اللِّبَاسِ مَا قَصُرَ، وَمِنَ الطَّعَامِ مَا خَشُنَ، كَانَ فِينَا كَأَحَدِنَا، يُجِيبُنَا إِذَا سَأَلْنَاهُ، وَيُنَبِّئُنَا إِذَا اسْتَنْبَأْنَاهُ، وَنَحْنُ وَاللهِ مَعَ تَقْرِيبِهِ إِيَّانَا وَقُرْبِهِ مِنَّا ، لَا نَكَادُ نُكَلِّمُهُ لِهَيْبَتِهِ، وَلَا نَبْتَدِيهِ لِعَظَمَتِهِ، فَإِنْ تَبَسَّمَ فَعَنْ مِثْلِ اللُّؤْلُؤِ الْمَنْظُومِ،  يُعَظِّمُ أَهْلَ الدِّينِ، وَيُحِبُّ الْمَسَاكِينَ، لَا يَطْمَعُ الْقَوِيُّ فِي بَاطِلِهِ، وَلَا يَيْأَسُ الضَّعِيفُ مِنْ عَدْلِهِ، وَأَشْهَدُ لَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي بَعْضِ مَوَاقِفِهِ، وَقَدْ أَرْخَى اللَّيْلُ سُدُولَهُ، وَغَارَتْ نُجُومُهُ، وَقَدْ مثل فِي مِحْرَابِهِ، قَابِضاً عَلَى لِحْيَتِهِ، يَتَمَلْمَلُ تَمَلْمُلَ السَّلِيمِ، ـ يعني المريض ـ وَيَبْكِى بُكَاءَ الْحَزِينِ، وَيَقُولُ: يَا دُنْيَا غُرِّي غَيْرِي، أَبِي تَعَرَّضْتِ؟ أَمْ إِلَيَّ تَشَوَّقْتِ؟ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، غُرِّي غَيرِي، قَدْ بَايَنْتُكِ ثَلَاثاً لَا رَجْعَةَ فِيهَا، فَعُمْرُكِ قَصِيرٌ، وعَيشُكِ حَقِيرٌ، وَخَطَرُكِ كَبيرٌ، آهٍ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ، وَبُعْدِ السَّفَرِ، وَوَحْشَةِ الطَّرِيقِ، قَالَ فَذَرِفَتْ دُمُوعُ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَمَا يَمْلِكُهَا وَهُوَ يُنَشِّفُهَا بِكُمِّهِ، وَقَدْ اخْتَنَقَ الْقَوْمُ بِالْبُكَاءِ، ثُمَّ قَالَ مُعَاوِيَةُ: رَحِمَ اللهُ أَبَا الْحَسَنِ كَانَ وَاَللهِ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ حُزْنُك عَلَيْهِ يَا ضِرَارُ؟ قَالَ: حُزْنُ مَنْ ذُبِحَ وَلَدُهَا فِي حِجْرهَا فَلَا تَرْقَأُ عَبْرَتُهَا، وَلَا تَسْكُنُ حَسْرَتُهَا.

خاتمة نسألُ الله حُسنَهَا:

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: تذكَّروا ما نحنُ قادِمونَ عليهِ، تّذَكَّروا ما يَنتَظِرُنَا من أهوالِ يومِ القِيامَةِ، تَذَكَّروا يومَ العرضِ، تَذَكَّروا الجنَّةَ والنَّارَ، تَذَكَّروا الصِّراطَ، تَذَكَّروا الميزانَ، تَذَكَّروا تطايُرَ الصُّحُفِ، تَذَكَّروا يوماً إما فرحٌ لا حزنَ بعدَهُ، وإما حزنٌ لا فَرَحَ بعدَهُ، تَذَكَّروا قولَ المنادي يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ.

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لا تَشغَلْكُمُ الأحداثُ مهمَا قَسَت واشتَدَّت عن هذهِ الحقيقَةِ التي آمنَّا بها من كُلِّ ذرَّاتِنَا.

اللهمَّ لا تجعلنَا من النَّادِمِينَ عندَ سَكَراتِ الموتِ، اللهمَّ اجعلنَا فَرِحِينَ مُستَبشِرِينَ ضاحِكِينَ مَسرُورِينَ قائِلِينَ: غداً نلقَى الأحبَّةَ محمَّداً وصَحبَهُ الكرام رَضِيَ اللهُ عنهُم. آمين.

أقول هذا القول وكل منا يستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

الثلاثاء: 2/ربيع الأول /1434هـ، الموافق: 12/شباط / 2013م