13ـ مع الحبيب المصطفى: عفوه ومسامحته لأعدائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم

 

مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم

13ـ عفوه ومسامحته لأعدائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فيأيُّها الإخوة الكرام: الاختلافُ بينَ النَّاسِ أمرٌ طبيعيٌّ، بل هوَ قَدَرٌ حَتميٌّ، قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِين * إِلا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾.

إنَّها سُّنَّةٌ ماضيَةٌ لا يَستَطيعُ أحدٌ تَغييرَها، ولا تَبدِيلَهَا، ولا الوقوفَ أمامَهَا أو صَدَّهَا، ولكنَّ المَقدورَ عليهِ هوَ مَعرفَةُ الطَّريقِ الصَّحيحِ للخروجِ من أيِّ خِلافٍ دونَ تَضادٍّ أو مُواجَهَةٍ، واجتنابُ الخِصامِ الذي يُورِّثُ عَداوةً ظاهِرَةً أو باطِنَةً، أو يزرعُ إحنَةً باطِنَةً.

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لا عِلاجَ أنجعُ وأنجحُ من عِلاجٍ تملُكُهُ نُفُوسٌ آمَنَت باللهِ تعالى وابتَغَت ما عِندَهُ منَ الأجرِ العظيمِ، وتَقبَلُهُ قُلوبٌ امتلأَت بِمَحَبَّةِ الخيرِ للنَّاسِ، وتَتَّسِعُ بهِ صُدورُ قَومٍ مؤمنينَ، نعم، إنَّهُ العَفوُ والتَّسامُحُ ونِسيانُ ما تَقَدَّمَ ومَضى، والتَّنازُلُ عمَّا للنَّفسِ من حَقٍّ عندَ الآخرينَ، لا عن ضَعفٍ أو خَوَرٍ، ولا بدافعٍ من خَوفٍ أو جُبنٍ، ولكن رَغبةً خالِصةً فيما عندَ اللهِ، وإيثاراً صادِقَاً للآخِرَةِ على الدُّنيا، وتَفضِيلاً لما يَبقى ويَدومُ على ما يَفنى ويَزُولُ.

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: من سامَحَ النَّاسَ طابَ عَيشُهُ، واتَّسَعَ صَدرُهُ، وصَفَا قلبُهُ، وزَكَت نَفسُهُ، واجتَمَعَت على الخيرِ هِمَّتُهُ، وأفلَحَ بوعدِ ربِّهِ، قالَ تعالى: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ﴾.

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: شرُّ النَّاسِ مَن لا يُقيلُ عَثَرَةً، ولا يَقبَلُ عُذرَاً، ولا يَغفِرُ ذَنباً، ولا يَستُرُ عَيبَاً، وشَرٌّ منهُ مَن لا يُرجَى خيرُهُ، ولا يُؤمَنُ شَرُّهُ، وأشَدُّ منهُ شَرَّاً مَن يُبغِضُ النَّاسَ ويُبغِضونَهُ، روى الطبراني عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قالَ: «الْمُؤْمِنُ يَأْلَفُ وَيُؤْلَفُ، وَلاَ خَيْرَ فِيمَنْ لاَ يَأْلَفُ وَلاَ يُؤْلَفُ، وَخَيرُ النَّاسِ أَنفَعَهُم لِلنَّاسِ». وفي روايةٍ للبيهقي عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قالَ: «الْمُؤْمِنُ مألوف، وَلاَ خَيْرَ فِيمَنْ لاَ يَأْلَفُ وَلاَ يُؤْلَفُ، وَخَيرُ النَّاسِ أَنفَعَهُم لِلنَّاسِ».

وروى الإمامُ البُخاري عن عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنهَا، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ».

حقيقةُ الإيمانِ:

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: إنَّ الإيمانَ باللهِ تعالى، والإيمانَ بسيِّدِنَا رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ليسَ في شعائِرَ تُؤدَّى في المساجِدِ لدقائِقَ ثمَّ لا يكونُ لها أثرٌ، وليسَ في قراءَةِ القُرآنِ الكريمِ حيثُ سُرعانَ ما يُنسى أثَرُهُ، ولا يُطَبَّقُ ما يدعُو إليهِ، إنَّ حقيقةِ الإِيمانِ تَظهَرُ في اتِّباعِ سيِّدِنَا رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ظاهِراً وباطِنَاً.

فالسَّعيدُ منَّا مَن جَعَلَ سيِّدَنَا رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قُدوتَهُ، السَّعيدُ مِنَّا مَن جَعَلَ هَواهُ وِفقَ ما جاءَ بهِ سيِّدُنَا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، السَّعيدُ مِنَّا مَن إذا ظَهَرَ منهُ نَقصٌ بادَرَ وأسرَعَ لِتَبرِئَةِ الإسلامِ من هذا النَّقصِ، ونَسَبَ النَّقصَ لِنَفسِهِ ثمَّ تابَ إلى اللهِ تعالى، وإلَّا فالطَّامَّةُ الكُبرى عندما يَظهَرُ النَّقصُ من الإنسانِ المُسلِمِ، وخاصَّةً إذا كانَ يُشارُ إليهِ بالبَنَانِ بأنَّهُ مِن أهلِ الاتِّباعِ والاقتِداءِ، ثمَّ يُبَرِّرُ نَقصَهُ، والأسوءُ منهُ حالاً مَن حمَّلَ الإسلامَ نقصَهُ.

التَّسامُحُ والعفوُ شِعارُ الحبيبِ الأعظمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: الكثيرُ منَ الناسِ مَن يَبحَثُ عن مَصادِرِ العِزَّةِ وسُبُلِ الوُصُولِ إليها، معَ العِلمِ بأنَّ سيِّدَّنا رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أوضَحَ لَنَا مَصدَرَ العِزَّةِ وسَبيلَ الوُصولِ إليها بقولِهِ: «ثَلَاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ» وعدَّ منها: «وَلا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً فَصَبَرَ عَلَيهَا إِلاَّ زَادَهُ اللهُ عِزَّاً» رواه الإمام الترمذي عن أبي كَبشَةَ الأنماريِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ. وفي روايَةٍ للإمامِ أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قالَ: «أمَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ بِمَظْلَمَةٍ فَيُغْضِي عَنْهَا للهِ عَزَّ وَجَلَّ، إِلَّا أَعَزَّ اللهُ بِهَا نَصْرَهُ».

فإذا صَبَرَ المؤمِنُ على المَظلَمَةِ زادَهُ اللهُ تعالى بها عِزَّاً، فكيفَ إذا عَفَا وسامَحَ؟ لا شكَّ بأنَّ اللهَ تعالى يَزيدُهُ عِزَّاً في الدُّنيا، ويُدخِلُهُ الجَنَّةَ في الآخِرَةِ، قال تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ واللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين﴾.

صُوَرٌ من مُسامَحَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِأعدائِهِ:

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لِنَنظُرْ إلى سِيرَةِ سيِّدِنا رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في خُلُقِ التَّسامُحِ والعَفوِ عن أعدائِهِ، ثمَّ لِنَنظُرْ إلى هذا الخُلُقِ أينَ هوَ فِينَا معَ بَعضِنَا البَعضِ؟ لِنَعرِفَ كم هوَ البونُ شاسِعٌ واسِعٌ بَينَنَا وبينَ الحبيبِ الأعظمِ سيِّدِنَا رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

أولاً: روى البيهقي عَن شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: لَمَّا غَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حُنَيْنَ، تَذَكَّرْتُ أَبِي، وَعَمِّي ، قَتَلَهُمَا عَلِيٌّ، وَحَمْزَةُ، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أُدْرِكُ ثَأْرِي فِي مُحَمَّدٍ، فَجِئْتُهُ فَإِذَا الْعَبَّاسُ مِنْ يَمِينِهِ، عَلَيْهِ دِرْعٌ بَيْضَاءُ كَأَنَّهَا الْفِضَّةُ، فَكَشَفَ عَنْهَا الْعَجَاجَ، فَقُلْتُ: عَمُّهُ لَنْ يَخْذُلَهُ، فَجِئْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَإِذَا أَنَا بِأَبِي سُفْيَانَ بن الْحَارِثِ، فَقُلْتُ: ابْنُ عَمِّهِ وَلَنْ يَخْذُلَهُ، فَجِئْتُهُ مِنْ خَلْفِهِ، فَدَنَوْتُ وَدَنَوْتُ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلا أَنْ أُسَوِّرَهُ سَوْرَةً بِالسَّيْفِ ـ أثِبُ عليهِ وَثبَةً بالسيفِ ـ رُفِعَ إِلَيَّ شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ كَأَنَّهُ الْبَرْقُ، فَخِفْتُ أَنْ يَمْحَشَنِي ـ يَحرِقَ جِلدِي ـ فَنَكَصْتُ الْقَهْقَرَى، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:«تَعَالَ يَا شَيْبُ»، فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِي، فَاسْتَخْرَجَ اللهُ الشَّيْطَانَ مِنْ قَلْبِي، فَرَفَعْتُ إِلَيْهِ بَصَرِي، وَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ سَمْعِي وَمِنْ بَصَرِي ، وَمِنْ كَذَا، فَقَالَ لِي: «يَا شَيْبُ قَاتِلِ الْكُفَّارَ».

ثانياً: عَفوُهُ ومُسامَحَتُهُ لليَهوديَّةِ التي سَمَّتهُ، كما جاءَ في الحديثِ الذي رواهُ الإمامُ مسلم عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: أَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً أَتَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: أَرَدْتُ لِأَقْتُلَكَ، قَالَ: «مَا كَانَ اللهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَى ذَاكِ» قَالَ: أَوْ قَالَ: «عَلَيَّ». قَالَ: قَالُوا: أَلَا نَقْتُلُهَا؟ قَالَ: «لَا». قالَ فما زلتُ أَعرِفُهَا في لَهَواتِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. معنى اللهَوَاتَ: جمعُ لَهاةٍ، وهيَ اللحمَةُ الحمراءُ المُعَلَّقَةُ في أصلِ الحَنَكِ المُشرِفَةُ على الحَلقِ.

فلم يَضُرَّ ذلكَ السُّمُّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ طُولَ حَياتِهِ غيرَ ما أَثَّرَ بِلَهَوَاتِهِ، وغيرَ ما كَانَ يُعَاوِدُهُ في أوقاتٍ، فلمَّا حَضَرَ وَقتُ وَفاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَحدَثَ اللهُ ضَرَرَ ذلِكَ السُّمَّ في النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَتُوُفِّيَ بِسَبَبِهِ، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في مَرَضِهِ الذي تُوُفِّيَ فيهِ: «مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ». ـ الأبهر: عِرقٌ في الظَّهرِ، وهما أَبهرَانِ ـ رواه الإمام البخاري عن عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنهَا. فَجَمَعَ اللهُ لنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بينَ النُّبُوَّةِ والشَّهادَةِ مُبالَغَةً في التَّرفِيعِ والكَرامَةِ.

وفي روايةٍ للإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ ـ وفي روايةٍ لأبي داود فَقَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ فَإِنَّهَا أَخْبَرَتْنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ» ـ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اجْمَعُوا إِلَيَّ مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ يَهُودَ» فَجُمِعُوا لَهُ، فَقَالَ: «إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْهُ»؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، قَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَبُوكُمْ»؟ قَالُوا: فُلَانٌ ـ أوهموهُ باسمٍ غيرِ اسمِهِ ـ فَقَالَ: «كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ فُلَانٌ»؟ ـ يعني يَعقُوبَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام ـ قَالُوا: صَدَقْتَ، قَالَ: «هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُ عَنْهُ»؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَا عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا، فَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ أَهْلُ النَّارِ»؟ قَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيراً، ثُمَّ تَخْلُفُونَا فِيهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اِخْسَئُوا فِيهَا وَاللهِ لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَداً» ثُمَّ قَالَ: «هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ»؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، قَالَ: «هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمَّاً؟» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ»؟ قَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَاذِباً نَسْتَرِيحُ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيَّاً لَمْ يَضُرَّكَ.

ثالثاً: عَفوُهُ ومُسامَحَتُهُ للأعرابيِّ الذي أرادَ اغتيالَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، روى الإمام البخاري عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَفَلَ مَعَهُ، فَأَدْرَكَتْهُمُ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ ـ شجرٌ ذو شوكٍ ـ فَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ سَمُرَةٍ ـ شَجَرَةٍ ـ وَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ، وَنِمْنَا نَوْمَةً، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَدْعُونَا، وَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ عَلَيَّ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتاً ـ أي مُجرَّداً من غِمدِهِ ـ فَقَالَ لِي: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قُلْتُ: اللهُ» ، فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ، ثُمَّ لَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: هذا هوَ نبيُّنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وهذهِ هيَ أخلاقُهُ، وهذا هوَ عَفوُهُ ومُسامَحَتُهُ، حيثُ زادَهُ اللهُ تعالى عزَّاً إلى عِزِّهِ، ومكانَةً إلى مكانتِهِ، وبذلِكَ مَلَكَ القُلوبَ، وفَتَحَ بهذِهِ الأخلاقِ الكريمَةِ قُلوباً غُلْفَاً، وآذاناً صُمَّاً، وجَعَلَ النَّاسَ يدخلونَ في دينِ اللهِ أفواجاً.

فأينَ نحنُ من هذهِ الأخلاقِ النَّبويَّةِ؟ وهل النَّاسُ اليومَ يُقبِلونَ على الإسلامِ بسبَبِ أخلاقِ المُسلمينَ معَ بعضِهِمُ البعض، أم يَنفِرُونَ مِنَ الإسلامِ.

يا قومِ تذكَّروا قولَ اللهِ تعالى: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً﴾. اللهُمَّ وَفِّقنَا لِذلِكَ آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 25/ربيع الثاني /1434هـ، الموافق: 7/آذار / 2013م