12ـ مع الحبيب المصطفى: بأبي وأمي يا رسول الله ما أحلمك!

 

مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم

12ـ بأبي وأمي يا رسول الله ما أحلمك

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

أيُّها الإخوة الكرام: أعلمُ النَّاسِ بالله تعالى هوَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وهوَ أتقاهُم، كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها قَالَتْ: قال رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «والله إِنِّي لَأَعْلَمُكُمْ بالله عَزَّ وَجَلَّ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ قَلْباً».

وهوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أعلَمُ الخلقِ بما أعَدَّ اللهُ تعالى لِعِبادِهِ المؤمنينَ إذا آمَنوا، وبما أعَدَّ لِعَبيدِهِ إذا كَفَروا، لأنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رأى الجنَّةَ والنَّارَ بِعَينَي رأسِهِ ليلةَ الإسراءِ والمِعراجِ، ولذلكَ كانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حريصاً كُلَّ الحِرصِ على إيمانِ الخلقِ جميعاً.

وكانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُكِنُّ قَلبُهُ الشَّريفُ على هِدايَةِ الجميعِ ونَجاتِهِم، وكانَ يُتعِبُ نفسَهُ الشَّريفةَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من أجلِ إيمانِهِم وإسلامِهِم، حتَّى صارَ ربُّنا عزَّ وجلَّ يُواسيهِ ويُسلِّيهِ ويُلاطِفُهُ بأن لا يُهلِكَ نفسَهُ الشَّريفةَ أو يقتُلَها حُزناً وأسىً وحَسرةً وجَزَعاً عليهِم.

قال تعالى شاهِداً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِشِدَّةِ حِرصِهِ على هِدايَةِ الخلقِ جميعاً: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم * فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلَـهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم﴾.

وقال تعالى مُسَلِّياً ومُواسِياً ومُلاطِفاً حَبيبَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بأن لا يُهلِكَ نفسَهُ حُزناً وأَسَفَاً على قَومِهِ إذا لم يُسلِموا: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً﴾. وقال تعالى: ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُون﴾. وقال تعالى: ﴿وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُون﴾. وقال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: كُلُّ هذا دالٌّ على مُنتهى الرَّحمةِ التي جُبِلَ عليها سيِّدُنا رسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وإلَّا لَـَما وُجِدَ منهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الحِرصُ وبَخعُ النَّفسِ عليهِم، والحُزنُ وإذهابُ النَّفسِ حَسرةً عليهِم إن لم يُؤمِنوا.

تَألُّـمُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على الكُفَّارِ لما يفوتُهُم من الخيرِ:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد كانَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَتَألَّمُ على المشركينَ إذا تأخَّروا عن إعلانِ إسلامِهِم، وذلكَ لما يفوتُهُم من الخيرِ، وخَشيةً عليهِم أن يموتوا على الكُفرِ، لأنَّهُم لا يعلمونَ أنَّ أعمارَهُم وِعاءٌ لأعمالِهِم، وأنَّ أعمالَهُم مَحصِيَّةٌ عليهِم، وأنَّ العذابَ الأليمَ الذي لا يُطاقُ ينتَظِرُهُم، فضلاً عن النَّعيمِ الذي ما رأتْهُ عينٌ، وما سَمِعَتْهُ أُذُنٌ، وما خَطَرَ على قلبِ بَشَرٍ الذي سيفوتُهُم.

جاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام أحمد عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ رَضِيَ اللهُ عَنهُما قَالَا: خَرَجَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ يُرِيدُ زِيَارَةَ الْبَيْتِ، لَا يُرِيدُ قِتَالًا، وَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ سَبْعِينَ بَدَنَةً، وَكَانَ النَّاسُ سَبْعَ مِائَةِ رَجُلٍ، فَكَانَتْ كُلُّ بَدَنَةٍ عَنْ عَشَرَةٍ، وَخَرَجَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِعُسْفَانَ لَقِيَهُ بِشْرُ بْنُ سُفْيَانَ الْكَعْبِيُّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ سَمِعَتْ بِمَسِيرِكَ فَخَرَجَتْ مَعَهَا الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ، قَدْ لَبِسُوا جُلُودَ النُّمُورِ، يُعَاهِدُونَ اللهَ أَنْ لَا تَدْخُلَهَا عَلَيْهِمْ عَنْوَةً أَبَداً، وَهَذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي خَيْلِهِمْ قَدِمُوا إِلَى كُرَاعِ الْغَمِيمِ.

فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا وَيْحَ قُرَيْشٍ لَقَدْ أَكَلَتْهُمُ الْحَرْبُ، مَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ خَلَّوا بَيْنِي وَبَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ، فَإِنْ أَصَابُونِي كَانَ الَّذِي أَرَادُوا، وَإِنْ أَظْهَرَنِي اللهُ عَلَيْهِمْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَهُمْ وَافِرُونَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا قَاتَلُوا وَبِهِمْ قُوَّةٌ، فَمَاذَا تَظُنُّ قُرَيْشٌ؟

والله إِنِّي لَا أَزَالُ أُجَاهِدُهُمْ عَلَى الَّذِي بَعَثَنِي اللهُ لَهُ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ لَهُ أَوْ تَنْفَرِدَ هَذِهِ السَّالِفَةُ». معنى الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ: جَمْعُ عَائِذٍ، وَهِيَ النَّاقَةُ ذَاتُ اللَّبَنِ، وَالْمَطَافِيلُ: الْأُمَّهَاتُ اللَّاتِي مَعَهَا أَطْفَالُهَا. ومعنى السَّالِفَةُ: صَفْحةُ العُنُقِ، وهما سالِفَتانِ من جَانِبَيهِ، وكَنَّى بانفِرَادِها عن الموتِ لأنَّها لا تَنْفردُ عمَّا يَليها إلا بالموتِ، وقيلَ: أرادَ حتَّى يُفَرَّقَ بينَ رأسي وجَسَدي.

بأبي وأمِّي ما أحلَمَكَ:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد كانَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يفرَحُ فَرَحاً شديداً إذا آمَنَ واحِدٌ من المشركينَ، وكانَ إذا رأى واحِداً منهُم دَعاهُ إلى الإسلامِ قائلاً له: «وَيْحَكَ». وهي كلمةٌ تُقالُ للتَّوجُّعِ. ولم يَقُل له: (ويلَكَ) وهي دُعاءٌ بالهَلاكِ.

روى الطبراني برجال الصحيح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما قال: خَرَجَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِعَشْرٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وجاءَ في الحديثِ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لعمِّهِ العبَّاسِ في أبي سُفيانَ: «اذْهَبْ بِهِ إِلَى رَحْلِكَ يَا عَبَّاسُ، فَإِذَا أَصْبَحَ فَائْتِنِي بِهِ» فَذَهَبْتُ بِهِ إِلَى رَحْلِي فَبَاتَ عِنْدِي، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَوْتُ بِهِ إِلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ، أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ؟».

قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا أَكْرَمَكَ وَأَوْصَلَكَ، والله لَقَدْ ظَنَنْتُ أَنْ لَوْ كَانَ مَعَ الله غَيْرُهُ لَقَدْ أَغْنَى عَنِّي شَيْئاً.

قَالَ: «وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ، أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنِّي رَسُولُ الله؟».

قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا أحْلَمَكَ وَأَكْرَمَكَ وَأَوْصَلَكَ، هَذِهِ والله كَانَ فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْءٌ حَتَّى الآنَ.

 قَالَ الْعَبَّاسُ: وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ، أَسْلِمْ، وَاشْهَدْ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله قَبْلَ أَنْ تُضْرَبَ عُنُقُكَ.

قَالَ: فَشَهِدَ بِشَهَادَةِ الْحَقِّ وَأَسْلَمَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبُّ هَذَا الْفَخْرَ، فَاجْعَلْ لَهُ شَيْئاً، قَالَ: «نَعَمْ، مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ».

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: هل عِندَنا حِرصٌ على هِدايَةِ النَّاس؟ هل عِندَنا حِلمٌ وأناةٌ وصَبرٌ على من آذانا؟ هل نَرُدُّ إلى الله تعالى هارِباً منهُ؟ لأنَّهُ جاء في أخبارِ داوودَ عليه السَّلامُ أنَّ اللهَ تعالى قالَ له: يا داوودُ من رَدَّ إليَّ هارِبَاً كَتَبتُهُ عندي جَهبَذاً، ومن كَتَبتُهُ جَهبَذاً لم أُعَذِّبهُ أبداً. من كتاب إحياء علوم الدين.

هل نحنُ حريصونَ على الخيرِ العظيمِ في هِدايَةِ رجُلٍ واحِدٍ من خلقِ الله تعالى؟ لأنَّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال لعليٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: «فوالله لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ» متَّفقٌ عليه عن سَهْلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. معنى حُمْرُ النَّعَمِ: أي الْإِبِلُ الْحُمْرُ، وَهِيَ أَنْفُسُ أَمْوَالِ الْعَرَبِ.

وأحسنُ الطُّرُقِ وأفضَلُها وأقرَبُها للدَّعوَةِ إلى الله تعالى هوَ الخُلُقُ الحَسَنُ الذي تحلَّى به سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ودَعانا ربُّنا عزَّ وجلَّ للتَّأسِّي به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

اللَّهُمَّ وفِّقنا لذلكَ بِرَحمَتِكَ يا أرحمَ الرَّاحِمينَ، نسألُكَ يا ربَّنا أن ترزُقَنا أحسنَ الأخلاقِ، فإنَّهُ لا يرزُقُ أحسَنَها إلا أنتَ، وأن تصرِفَ عنَّا سَيِّئها، فإنَّهُ لا يصرِفُ سَيِّئها إلا أنتَ.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 22/ربيع الثاني /1434هـ، الموافق: 4/آذار / 2013م