75ـ كلمة شهر جمادى الأولى 1434هـ: أين الرجال في الأزمات؟

 

المقدمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيَا أيُّهَا الإخوَةُ الكِرام: الإصلاحُ بينَ المؤمنينَ إذا تَنازَعوا واجبٌ لا بدَّ منهُ، لِتَستَقِيمَ حَياةُ المجتَمعِ، ويَتَّجِهَ نَحوَ العَمَلِ المُثمِرِ، بالإِصلاحِ تُحِلُّ المَوَدَّةُ مَحَلَّ القَطيعَةِ، والمَحَبَّةُ مَحَلَّ الكراهِيَةِ.

الإِصلاحُ ينبُعُ من نُفوسٍ صافِيَةٍ سامِيَةٍ آثَرَتِ الحياةَ الباقِيَةَ على الفانِيَةِ، وطَمِعَت بالخَيرِ من عندِ الله عزَّ وجلَّ، قال تعالى: ﴿لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾.

إصلاحُ ذاتِ البَينِ أفضلُ من نافِلَةِ الصِّيامِ والصَّلاةِ والصَّدَقَةِ، كما جاء في      سنن أبي داوود عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ: «إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ».

حِكمَةُ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في الأزَماتِ:

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لقد أكرَمَ اللهُ عزَّ وجلَّ سيِّدَنا رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِعَقلٍ، فكانَ في أعلى مُستَوى، فهوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ صاحِبُ العَقلِ الأكمَلِ، وكيفَ لا يكونُ عَقلُهُ فوقَ كُلِّ العُقولِ وقَد أنعَمَ اللهُ تعالى عليهِ وأكرَمَهُ فَخَصَّهُ بالنُّبُوَّةِ الجامِعَةِ والخاتِمَةِ، والرِّسالَةِ العامَّةِ، يقولُ وَهبُ بنُ مُنَبِّه: قَرَأتُ في واحِدٍ وسَبعينَ كِتاباً، فَوَجَدتُ في جَميعِها أنَّ اللهَ تبارَكَ وتعالى لم يُعطِ جَميعَ النَّاسِ من بِدءِ الدُّنيا إلى انقِضَائِها من العَقلِ في جَنبِ عَقلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلا حَبَّةَ رَملٍ من بَينِ جَميعِ رِمالِ الدُّنيا، وأنَّ مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أرجَحَ النَّاسِ عَقلاً وأفضَلَهُم رَأياً. اهـ.  

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لقد كانَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بهذا العَقلِ الذي وَهَبَهُ اللهُ تعالى إيَّاهُ يَتعايَشُ مع الأزَماتِ، ويُساعِدُ الأمَّةَ على الخَلاصِ مِنها، ويَعمَلُ على إِطفاءِ نَارِ الفِتَنِ والحُروبِ بِحِكمَةٍ بالِغَةٍ واسِعَةٍ.

كانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِنِعمَةِ العَقلِ يَنزِعُ فَتيلَ الأزمَةِ حتَّى لا يَنفَجِرَ في الجَميعِ، لأنَّهُ رحمةٌ للعَالمينَ، فكانَ بذلكَ أُسوةً لِجَميعِ العُقَلاءِ الذينَ يَقِفونَ في الأزَماتِ مَوقِفَ رجالٍ يُحِبُّونَ الخَيرَ للنَّاسِ، ويُحِبُّونَ الإصلاحَ بينَ النَّاسِ.

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: إليكُم نَموذَجَينِ من سِيرَتِهِ العَطِرَةِ في الأزَماتِ لَعلَّ اللهَ تعالى أن يُكرِمَ الأمَّةَ بِرِجالٍ في هذهِ الأزمَةِ يُوقِفونَ سَفكَ الدِّماءِ، وهَتكَ الأعراضِ، وتَهديمَ البُيوتِ، وسَلبَ الأموالِ، حيثُ ضاقَتِ الأرضُ بما رَحُبَت بالمسلمينَ في هذا البَلَدِ، وضاقَت عليهِم أنفُسُهُم.

النَّموذَجُ الأوَّلُ:

لمَّا قامَت قُرَيشٌ بِتَجديدِ بِناءِ الكعبَةِ تَنازَعوا في رَفعِ الحَجَرِ الأسوَدِ، وتَنافَسوا رَجاءَ أن تنالَ كُلُّ قبيلةٍ شَرَفَ رَفعِهِ وَوَضْعِهِ في مَوضِعِهِ، وعَظُمَ القِيلُ والقَالُ، واستَمَرَّ النِّزاعُ أربعَ ليالٍ أو خَمساً، واشتَدَّ حتَّى كادَ أن يَتَحَوَّلَ إلى حَربٍ ضَروسٍ في أَرضِ الحَرَمِ.

إلا أنَّ أبا أُميَّةَ بنَ المُغيرةِ المَخزوميِّ قالَ لهُم: حَكِّموا فيما شَجَرَ بَينكُم أوَّلَ داخِلٍ عليكُم من بابِ بني شَيبَةَ، فارتَضُوهُ، وشاءَ اللهُ تعالى أن يكونَ الدَّاخِلُ سيِّدَنا رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وكانَ ذلكَ قبلَ البِعثَةِ بِخَمسِ سَنواتٍ، فلمَّا رَأَوهُ هَتَفُوا: رَضِينَا بالصَّادِقِ الأمينِ، فلمَّا انتهى إِليهِم، وأخبَروهُ الخَبَرَ، أمَرَ بِثَوبٍ فَجِيءَ بهِ، فَحَمَلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الحَجَرَ بِيَدَيهِ الشَّريفَتَينِ، ثمَّ طَلَبَ من رُؤَسَاءِ القَبائِلِ المُتَنازِعينَ أن يُمسِكُوا جَميعاً بأطرافِ الثَّوبِ، وأمَرَهُم أن يَرفَعُوهُ، حتَّى إذا أوصَلوهُ إلى مَوضِعِهِ، أَخَذَهُ بِيَدَيهِ الشَّريفَتَينِ فَوَضَعَهُ في مَكَانِهِ.

وبِذلِكَ حَقَنَ دِماءَ قَومِهِ، وجَنَّبَ قَومَهَ وبَلَدَهُ حَرباً ضَرُوساً.

فاللهَ تعالى أَسأَلُ أن يُهيِّئَ لهذِهِ الأُمَّةِ رِجالاً صادِقِينَ يُوقِفُونَ سَفكَ دِماءَ المُسلِمينَ لِبَعضِهِمُ البَعضِ.

النَّموذَجُ الثَّاني:

في غزوةِ المريسيعِ، قالَ رأسُ المُنَافِقِينَ: أَمَا واللهِ لَئِن رجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَ لَهُمْ: هَذَا مَا فَعَلْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ، أَحْلَلْتُمُوهُمْ بِلَادَكُمْ، وَقَاسَمْتُوهُمْ أَمْوَالَكُمْ، أَمَا واللهِ لَوْ أَمْسَكْتُمْ عَنْهُمْ مَا بِأَيْدِيكُمْ لَتَحَوَّلُوا إلَى غَيْرِ دَارِكُمْ.

فَبَلَغَ ذلكَ لسيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فقالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنهُ: مُرْ بِهِ عَبَّادَ بْن بِشْرٍ فَلْيَقْتُلْهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَكَيْفَ يَا عُمَرُ إذَا تَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّداً يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ؟ لَا» وَلَكِنْ أَذِّن بِالرَّحِيلِ.

فارتَحَلَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في ساعةٍ لم يَكُن يَرتَحِلُ فيها، فَلَقِيَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، فَحَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ النُّبُوَّةِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا نَبِيَّ الله، والله لَقَدْ رُحْتَ فِي سَاعَةٍ مُنْكَرَةٍ مَا كُنْتَ تَرُوحُ فِي مِثْلِهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَوْ مَا بَلَغَك مَا قَالَ صَاحِبُكُمْ؟» قَالَ: وَأَيُّ صَاحِبٍ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: «عَبْدُ الله بْنُ أُبَيٍّ» قَالَ: وَمَا قَالَ؟ قَالَ: «زَعَمَ أَنَّهُ إنْ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَن الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ» قَالَ: فَأَنْتَ يَا رَسُولَ الله والله تُخْرِجُهُ مِنْهَا إنْ شِئْتَ، هُوَ وَاَللهِ واللهِ الذَّلِيلُ وَأَنْتَ الْعَزِيزُ. ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ الله، اُرْفُقْ بِهِ فواللهِ لَقَدْ جَاءَنَا اللهُ بِكَ، وَإِنَّ قَوْمَهُ لَيَنْظِمُونَ لَهُ الْخَرَزَ لِيُتَوِّجُوهُ فَإِنَّهُ لَيَرَى أَنَّك قَد اسْتَلَبْتهُ مُلْكاً.

ثُمَّ مَشَى رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ حَتَّى أَمْسَى، وَلَيْلَتَهُمْ حَتَّى أَصْبَحَ، وَصَدْرَ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ حَتَّى آذَتْهُمُ الشَّمْسُ، ثُمَّ نَزَلَ بِالنَّاسِ فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ وَجَدُوا مَسَّ الْأَرْضِ فَوَقَعُوا نِيَاماً.

نعم، لقد فَعَلَ ذلكَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِيَشغَلَ النَّاسَ عن الحَديثِ الذي كادَ أن يُؤَدِّي إلى فِتنَةٍ عَظيمةٍ.

خاتمة ـ نسألُ الله تعالى حُسنَ الخاتمة:

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: شأنُ الرِّجالِ العُقَلاءِ في الأزَماتِ أن يُطفِئوا نَارَ الفِتنَةِ إذا أُوقِدَت، وليسَ من شأنِهِم أن يَزيدوها اشتِعالاً، فهل من رِجالٍ عُقَلاءَ مسلمينَ لهذهِ الفِتنَةِ التي ذَهَبَ ضَحِيَّتَها من دِماءِ الأبرِياءِ ما لا يَعلَمُهُ إلا اللهُ تعالى؟

أسألُ اللهَ تعالى أن يُهَيِّئَ لهذهِ الأمَّةِ رِجالاً صادِقينَ في قُلوبِهِمُ الشَّفَقَةُ والرَّحمَةُ على أهلِ هذا البَلَدِ لإيقافِ نَزيفِ الدِّماءِ. آمين.

أخوكم أحمد شريف النعسان

         يرجوكم دَعوةً صالِحةً بظهرِ الغَيبِ

**        **     **

تاريخ الكلمة:

الثلاثاء: 1/جمادى الأولى/1434هـ، الموافق: 12/آذار/ 2013م