9 ـ دروس رمضانية: أين هؤلاء الأقوياء الأمناء؟

 

 9 ـ دروس رمضانية: أين هؤلاء الأقوياء الأمناء؟

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

أيُّها الإخوة الكرام: من أبرَزِ أخلاقِ الأنبِياءِ والمُرسَلينَ عليهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ خُلُقُ الأمانَةِ، فسيِّدُنا نوحٌ وهودٌ ولوطٌ وصالِحٌ وشُعَيبٌ، في سورَةِ الشُّعَراءِ يُخبِرُنا اللهُ عزَّ وجلَّ أنَّ كُلَّ رسولٍ من هؤلاءِ قد قالَ لِقَومِهِ: ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِين﴾.

وسيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كانَ في قَومِهِ قَبلَ الرِّسالَةِ وبَعدَها مَشهوراً بأنَّهُ الأمينُ، وكانَ النَّاسُ يَختارونَهُ لِحِفظِ ودائِعِهِم عِندَهُ، ولمَّا هاجَرَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَّلَّ سيِّدَنا عليَّ بن أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ بِرَدِّ الودائِعِ إلى أصحابِها.

والإنسانُ هوَ الوَحيدُ من بينِ المَخلوقاتِ المُكَلَّفُ بالأمانَةِ، فمن قَصَّرَ في هذا التَّكليفِ فعليهِ الغَرامَةُ، ومن أدَّاهُ فلهُ الكَرامَةُ.

التَّحريضُ على خُلُقِ الأمانَةِ:

أيُّها الإخوة الكرام: صِفَةُ الأمانَةِ في الأنبياءِ واجِبَةٌ فيهِم، وتعني العِصمَةُ حِفظَهُم ظاهِراً وباطِناً من التَّلَبُّسِ بِشَوائِبِ المَعصِيَةِ، وتعني كذلكَ التَّبليغَ الحَقَّ والصَّادِقَ لما أُمِروا أن يُبَلِّغوهُ.

ومن جملةِ التَّبليغِ، تَحريضُ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الأمَّةَ على خُلُقِ الأمانَةِ:

أولاً: لا تَحزَن على ما فاتَكَ من الدُّنيا إن كُنتَ أميناً:

أيُّها الإخوة الكرام: من أُكرِمَ بِنِعمَةِ الأمانَةِ فلا يَحزَن على ما فاتَهُ من الدُّنيا، روى الحاكم والإمام أحمد عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلَا عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِن الدُّنْيَا، حِفْظُ أَمَانَةٍ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ، وَعِفَّةٌ فِي طُهْرٍ».

ثانياً: ضَمِنَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الجَنَّةَ للأمينِ:

أيُّها الإخوة الكرام: من سَعادَةِ الأمينِ أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ضَمِنَ له الجَنَّةَ، روى الحاكم والإمام أحمد عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اضْمَنُوا لِي سِتَّاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُم الْجَنَّةَ، اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ».

ثالثاً: الأمانَةُ دَليلٌ على الإيمانِ:

أيُّها الإخوة الكرام: الأمانَةُ دَليلٌ على إيمانِ الأمينِ، روى الحاكم والإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ».

رابعاً: لا إيمانَ لمن لا أمانَةَ له:

أيُّها الإخوة الكرام: من كانَ أميناً كانَ مؤمناً، وإلا نُفِيَ عنهُ الإيمانُ، روى الإمام أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَالَ: «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ».

خامساً: من عَلاماتِ قِيامِ السَّاعَةِ ضَياعُ الأمانَةِ:

أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ من عَلاماتِ قِيامِ السَّاعَةِ ضَياعَ الأمانَةِ، روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ».

قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ الله؟

قَالَ: «إِذَا أُسْنِدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ».

سادساً: من الخِيانَةِ استِعمالُ غَيرِ الكُفءِ:

أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ من الخِيانَةِ استِعمالُ غَيرِ الكُفءِ في الأمَّةِ، معَ العِلمِ بِوُجودِ الأكفَأ، روى البيهقي عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، عن رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «من استَعمَلَ عَامِلاً منَ المُسلِمينَ وهوَ يَعلَمُ أنَّ فيهِم أَولَى بذلكَ مِنهُ وأعلَمَ بِكِتابِ الله وسُنَّةِ نَبِيِّهِ فَقَد خانَ اللهَ ورسولَهُ وجَميعَ المُسلِمينَ».

سابعاً: من غَشَّ رَعِيَّتَهُ حُرِّمَت عليهِ الجَنَّةُ:

أيُّها الإخوة الكرام: من غَشَّ رَعِيَّتَهُ وماتَ وهوَ غاشٌّ لهُم، حَرَّمَ اللهُ عليهِ الجَنَّةَ، روى الإمام مسلم عن مَعْقِلِ بنِ يَسَارٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ».

ثامناً: أينَ هؤلاءِ الأقوِياءِ الأُمَناءِ:

أيُّها الإخوة الكرام: شَأنُ المُصلِحينَ القُوَّةُ والأمانَةُ، وإلا فَهُم أدعِياءُ، روى النسائي عن أبي إسحاق رَضِيَ اللهُ عنهُ ـ عندما كان النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ أصحابَهُ عن قِصَّةِ سيِّدِنا موسى عليهِ السَّلامُ، معَ ابنَتَي سيِّدِنا شُعَيب عليهِ السَّلامُ ـ.

قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «قَالَتْ إِحْدَاهُمَا: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ.

فَاحْتَمَلَتْهُ الْغَيْرَةُ عَلَى أَنْ قَالَ لَهَا: مَا يُدْرِيكِ مَا قُوَّتُهُ، وَمَا أَمَانَتُهُ؟

فَقَالَتْ: أَمَّا قُوَّتُهُ، فَمَا رَأَيْتُ مِنْهُ فِي الدَّلْوِ حِينَ سَقَى لَنَا، لَمْ أَرَ رَجُلاً قَطُّ أَقْوَى فِي ذَلِكَ السَّقْيِ مِنْهُ.

وَأَمَّا الْأَمَانَةُ، فَإِنَّهُ نَظَرَ إِلَيَّ حِينَ أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ وَشَخَصْتُ لَهُ، فَلَمَّا عَلِمَ أَنِّي امْرَأَةٌ صَوَّبَ رَأْسَهُ، فَلَمْ يَرْفَعْهُ حَتَّى بَلَّغْتُهُ رِسَالَتَكَ، ثُمَّ قَالَ لِي: امْشِي خَلْفِي، وَانْعَتِي لِيَ الطَّرِيقَ.

فَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا إِلَّا وَهُوَ أَمِينٌ. فَسُرِّيَ عَنْ أَبِيهَا، وَصَدَّقَهَا، وَظَنَّ بِهِ الَّذِي قَالَتْ».

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوةُ الكرامُ: لقد أمَرَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أمَّتَهُ أن يَسألوا اللهَ الأمانَةَ والحَياءَ، لأنَّ الأمانَةَ دَليلٌ على الإيمانِ، والحَياءَ دَليلٌ على الخَيرِيَّةِ، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ أوَّلَ ما يُرفَعُ مِن هذهِ الأمَّةِ الحَياءُ والأمانَةُ، فَسَلوهُمَا اللهَ عزَّ وجلَّ» رواه البيهقي عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنهُ.

وفي رواية أبي يعلى عن أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: قالَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أوَّلُ ما يُرفَعُ مِن هذهِ الأمَّةِ الحَياءُ والأمانَةُ، وآخِرُ ما يَبقى منها الصَّلاةُ، وقد يُصَلِّي قَومٌ لا خَلاقَ لَهُم».

أسألُ اللهَ تعالى أن يُكرِمَنا بالأمانَةِ معَ الإخلاصِ. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 9 /رمضان /1434هـ، الموافق: 18/تموز / 2013م