6ـ دروس رمضانية: ثلاث آيات كريمات لدعاة الإصلاح

 

 6ـ دروس رمضانية: ثلاث آيات كريمات لدعاة الإصلاح

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فمِن أسماءِ اللهِ تعالى الصَّبُورُ، وهوَ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ، وهوَ مَعَ الصَّابِرِين، وهوَ يُبَشِّرُ الصَّابِرِينَ بالنَّتَائِجَ التِي يُحِبُّونَهَا، وبِالأجرِ العَظِيمِ عِندَهُ يَومَ القِيَامَةِ.

قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِين﴾. وقال: ﴿واللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين﴾. وقال: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَاب﴾. وقال: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِين﴾.

وأَكثَرُ النَّاسِ حاجَةً إلى التَّحَلِّي بِخُلُقِ الصَّبرِ هوَ مَن يَحمِلُ رِسَالَةَ الدَّعوَةِ إلى اللهِ تعالى وإلى صِرَاطِهِ المُستَقِيمِ، والنُّصحِ والإرشَادِ، والأمرِ بالمَعرُوفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ، فَصَاحِبُ الدَّعوَةِ هوَ مِن أَحوَجِ النَّاسِ إلى التَّحلِّي بِخُلُقِ الصَّبرِ.

أمَرَ اللهُ تعالى المُصلِحِينَ بالصَّبرِ:

أيُّها الإخوةُ الكرامُ: اقتَضَت حِكمَةُ اللهِ تعالى أن يَأمُرَ المُصلِحِينَ منَ الأنبيَاءِ والمُرسَلِينَ، ومِنَ العُلَمَاءِ من بَعدِهِم أن يَتَحَلُّوْا بِخُلُقِ الصَّبرِ عندَ الأمرِ بالمَعرُوفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ.

أولاً: أمَرَ اللهُ تعالى سَيِّدَنَا محمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بقولِهِ: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُوم * لَوْلا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُوم * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِين﴾.

سَيِّدُنَا يونُس عليهِ السَّلام تَرَكَ قَومَهُ أهلَ نِينَوَى مُغَاضِبَاً لمَّا كَذَّبُوهُ ورَفَضُوا الاستِجابَةَ لِدَعوَتِهِ، قَبلَ أن يأذَنَ اللهُ له بِذلِكَ، ولَم يَصبِر على مُتَابَعَةِ دَعوَتِهِ لهُم حتَّى يأتِيَهِ منَ الله تعالى أمرٌ بِمَا يَعمَل.

وهذِهِ الآيةُ الكَرِيمَةُ فيهَا تَهدِيدٌ للدُّعَاةِ إلى اللهِ تعالى، إذا تَضَجَّرُوا ويَئِسُوا منَ النَّاسِ وتَرَكُوا وَظِيفَةَ الأمرِ بالمَعرُوفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ أن يُعاقِبَهُمُ اللهُ تعالى بمَا يَشَاءُ مِن عِقَابٍ مُلائِمٍ.

ثانياً: يقُولُ اللهُ تعالى آمِرَاً كذلِكَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً﴾.

هذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ فيهَا إشَارَةٌ إلى أنَّ كُلَّ دَاعٍ إلى سَبِيلِ اللهِ تعالى لا بُدَّ أن يَتَعَرَّضَ لِأقوَالٍ جَارِحَةٍ، واتِّهَامَاتٍ بَاطِلَةٍ، مِن بعضِ الذينَ يُوَجِّهُ لهُم دَعوَتَهُ وتَذكِيرَهُ، والمَطلُوبُ منهُ في هذهِ الحَالَةِ أن يَصبِرَ على مَا يَقُولونَ، وأن لا يُقابلهَا بالمِثلِ.

فإن لم يَستَطِعِ التَّحمُّلَ فلا يَسَعُهُ إلا أن يَهجُرَهُم هَجراً جَميلاً، والهَجرُ الجَمِيلُ هوَ أن يَتَوَارَى عنهُم مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ ليُشعِرَهُم بأنَّهُم قد أساؤُوا، وهَذا الهَجرُ الجَمِيلُ الذي لا إساءَةَ فيهِ يَجعَلُ ذَوِي الفِطرَةِ السَّلِيمَةِ السَوِيَّةِ تَشعُرُ بِإكبَارِهِ، وحُسنِ خُلُقِهِ، وسُمُوِّ سَجَايَاهُ.

وأَمَرَ اللهُ تعالى بعدَ ذلِكَ الدَّاعيَ إلى الخَيرِ والآمِرَ بالمَعرُوفِ والنَّاهِي عن المُنكَرِ أن يَترُكَ هؤلاءِ المُعانِدِينَ مِن أهلِ النِّعمَةِ والرَّفاهِيَةِ وطِيبِ العَيشِ لربِّهِ عزَّ وجل، فلا يَتَّخِذَ مَعَهُمُ المواجهاتِ العَنِيفَةَ والمُصادَمَاتِ، لأنَّ هذهِ السَّيَاسَةَ هي الأجدى والأنفعُ لإقَامَةِ الحُجَّةِ، وتَحقِيقِ الإصلاحِ المَنشُودِ.

ثالثاً: يقُولُ الله تعالى لِسَيِّدِنَا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كذلِك: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى * وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾.

هذا التَّوجِيهُ وإن كانَ في ظَاهِرِهِ لسَيِّدِنَا رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، إلا أنَّهُ في الحَقِيقَةِ للدُّعَاةِ مِن أُمَّتِهِ من بَابِ أَولى وأَولى، لأنَّ سَيِّدَنَا رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كانَ مُتَحَقِّقَاً بالصَّبرِ والتَّسبِيحِ، وهوَ مِن أبعَدِ النَّاسِ عنِ الدُّنيَا وزَخَارِفِهَا، لذلِكَ عندمَا عُرِضَت عليهِ الدُّنيَا بِكُلِّ صُوَرِهَا رَفَضَهَا وأبَاهَا، لأنَّهُ هوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القائِلُ: «مَالي وَللدُّنْيَا؟ مَا أَنَا في الدُّنْيَا إِلا كَرَاكبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» رواه الترمذي عن عبدِ اللهِ بن مَسْعُودٍ رضيَ الله عنهُ.

فعَلَى كُلِّ دَاعٍ إلى الله تعالى أن يَتَحَلَّى بالصَّبرِ الذِي تَحَلَّى بهِ سَيِّدُنَا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وأن يَستَعِينَ على ذلِكَ بِكَثرَةِ التَّسبِيحِ لله تعالى، قَبلَ طُلُوعِ الشَّمسِ وقَبلَ غُرُوبِهَا، ومِن سَاعَاتِ اللَّيلِ وأطرَافِ النَّهارِ.

كذلِكَ يجبُ على الدَّاعي إلى اللهِ تعالى أن لا يَمُدَّ عَينَيهِ إلى شيءٍ مِن زَهرَةِ الحياةِ الدُّنيَا، لأنَّ أهلَ الدُّنيَا في حَالَةِ ابتلاءٍ فيمَا أسبَغَ اللهُ تعالى عليهِم مِنَ النِّعَمِ، فهَل سَيَنجَحُونَ في الابتلاءِ أم لا؟

خاتمةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخَاتِمَة ـ :

أيُّها الإخوةُ الكرامُ: اللَّائِق في دُعاةِ الإصلاحِ أن يَمتَثِلُوا أمرَ الله تعالى بالصَّبرِ على مَن يَدعُونَهُم، لأنَّ المنهَجَ الذي جاءَ بهِ سَيِّدُنَا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هو منهَجُ الإصلاحِ الذي يَحمِلُ في طَيَّاتِهِ الرِّفقَ واللِّينَ واليُسرَ والسَّمَاحَةَ.

فإذا لم يَمتَثِلِ الدُّعَاةُ أمرَ الله تعالى بذلِكَ، ولَم يَصبِروا على أذى القومِ، فَليَتَدَبَّرُوا قولَ الله تعالى لِسَيِّدِنَا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُوم﴾.

يَا دَاعي الصَّلاحِ والإصلاحِ، ربُّكَ الذي كَلَّفَكَ بِالدَّعوَةِ كَلَّفَكَ بالصَّبرِ، وأن لا تكونَ فَظَّاً غَليظَ القَلبِ، لأنَّهُ لا خيرَ في فَظٍّ غليظِ القَلبِ مَهمَا كَانَت دَعوتُهُ.

أسألُ الله تعالى لي ولكُم حُسنَ الخُلُقِ وفَضِيلَةَ الصَّبرِ. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 6/رمضان /1434هـ، الموافق: 15 /تموز / 2013م