29 ـ دروس رمضانية: من صور رحمة الله تعالى بالمؤمنين

 

 29 ـ دروس رمضانية: من صور رحمة الله تعالى بالمؤمنين

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: رَحمَةُ الله تعالى وَسِعَت كُلَّ شَيءٍ، قال تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾. وبَلَغَ من رَحمَةِ الله تعالى أنَّهُ خَلَقَ مِئَةَ رَحمَةٍ، فَبَثَّ بَينَ خَلقِهِ رَحمَةً واحِدَةً هُم يَتَراحَمونَ بها، وادَّخَرَ عِندَهُ لأولِيائِهِ وأصفِيائِهِ تِسعةً وتِسعينَ رَحمَةً، قال تعالى: ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُون * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ﴾.

روى الإمام مسلم عَنْ سَلْمَانَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ خَلَقَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِائَةَ رَحْمَةٍ، كُلُّ رَحْمَةٍ طِبَاقَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجَعَلَ مِنْهَا فِي الْأَرْضِ رَحْمَةً، فَبِهَا تَعْطِفُ الْوَالِدَةُ عَلَى وَلَدِهَا، وَالْوَحْشُ وَالطَّيْرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَكْمَلَهَا بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ».

وروى الشيخان عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءاً، وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءاً وَاحِداً، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ، حَتَّى تَرْفَعُ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ».

من صُوَرِ رَحمَةِ الله تعالى بالمؤمنينَ:

أيُّها الإخوة الكرام: خابَ وخَسِرَ من لم يَتَعامَل معَ الله تعالى، خابَ وخَسِرَ من أعرَضَ عن الله تعالى وكَفَرَ به واستَحَلَّ ما حَرَّمَ اللهُ تعالى، روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ الله مِن الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْئَسْ مِن الْجَنَّةِ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ الله مِن الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَن مِن النَّارِ».

وصُوَرُ رَحمَةِ الله تعالى بالمؤمنينَ كَثيرَةٌ، من جُملَتِها:

جاءَ في كنزِ العُمَّال عن هبار بن الاسود قال: كانَ أبو لَهَبٍ وابنُهُ عتيبة تَجَهَّزا إلى الشَّامِ، فَتَجَهَّزتُ مَعَهُمَا، فقال ابنُهُ عتيبة: والله لأنطَلِقَنَّ إلى محمَّدٍ ولأوذِيَنَّهُ في ربِّهِ سُبحانَهُ وتعالى.

فانطَلَقَ حتَّى أتى النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فقال: يا محمَّد، هوَ يَكفُرُ بالذي دَنا فَتَدَلَّى فكانَ قابَ قَوسَينِ أو أدنى.

فقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ ابعَث عليه كَلباً من كِلابِكَ».

ثمَّ انصَرَفَ عنهُ، فَرَجَعَ إلى أبيهِ، فقال: يا بُنَيَّ، ما قُلتَ له؟

فَذَكَرَ لهُ ما قال له، ثمَّ قال: فما قالَ لكَ؟

قال: قال: اللَّهُمَّ سَلِّط عَلَيهِ كَلباً من كِلابِكَ.

فقال: والله يا بُنَيَّ ما آمَنُ عَلَيكَ دُعاءَهُ، فَسِرنا حتَّى نَزَلنا السراةَ، وهيَ مأسدة، فَنَزَلنا إلى صَومَعَةِ راهِبٍ.

فقال الرَّاهِبُ: يا مَعشَرَ العَرَبِ، ما أنزَلَكُم هذهِ البِلادَ؟ فإنَّما تَسرَحُ الأسدُ فيها كما تَسرَحُ الغَنَمُ.

فقال لنا أبو لهب: إنَّكُم عَرَفتُم. كَبُرَ سِنِّي وحَقِّي.

فقُلنا: أجل يا أبا لهب.

فقال: إنَّ هذا الرَّجُلَ قد دَعا على ابنَي دَعوَةً والله ما آمَنُها عَلَيه، فاجمَعوا مَتاعَكُم إلى هذهِ الصَّومَعَةِ وافرُشوا لابني عَلَيها، ثمَّ افرُشوا حَولَها.

فَفَعَلنا فَجَمَعنا المتاعَ ثمَّ فَرَشنا له عَلَيهِ وفَرَشنا حَولَهُ، فَبَينا نحنُ حَولَهُ وأبو لَهَبٍ مَعَنا أسفلَ وباتَ هوَ فوقَ المتاعِ، فجاءَ الأسدُ فَشَمَّ وُجوهَنا، فلمَّا لم يَجِد ما يُريدُ تَقَبَّضَ فَوَثَبَ وَثبَةً فإذا هوَ فوقَ المتاعِ، فَشَمَّ وَجهَهُ ثمَّ هَزَمَهُ هَزمَةً فَفَشَخَ رَأسَهُ.

فقال أبو لهب: لقد عَرَفتُ أنَّهُ لا يَنفَلِتُ من دَعوَةِ محمَّدٍ. أورده السيوطي في الخصائص الكبرى. وقال السيوطي: وأخرجه ابن اسحاق وأبو نعيم من طرق أخرى مرسلة.

يا عبادَ الله، وكونوا على يَقينٍ بأنَّ الظَّالمينَ إن لم يَتوبوا إلى الله تعالى فلن يُفلِتوا من دَعوَةِ المَظلومينَ، وكيفَ يُفلِتوا من ذلكَ وسيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقولُ: «وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الله حِجَابٌ» رواه الشيخان عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

وفي رواية الحاكم عن ابن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقوا دَعوَاتِ المظلومِ، فإنَّها تَصعَدُ إلى السَّماءِ كأنَّها شَرارٌ».

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوةُ الكرامُ: اِحذَروا أيَّامَ الفِتنَةِ، واحذَروا أن تُصيبَ الفِتنَةُ قُلوبَكُم، ولا تَكونوا ممَّن يَعبُدُ اللهَ على حَرفٍ، أي على حالٍ واحِدَةٍ، قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِين﴾.

يا عبادَ الله، من المُحالِ دَوامُ الحالِ، فَلنلَتَزِم دِينَ الله تعالى، ولنَكُن وَقَّافينَ عِندَ حُدودِ الله تعالى فلا نَتَعَدَّاها، لا تُغَيِّروا ولا تُبَدِّلوا حتَّى تَلقَوُا اللهَ تعالى، فالعاقِبَةُ للمُتَّقينَ، والبَقاءُ للصَّالِحِ دونَ الطَّالِحِ.

اللَّهُمَّ اجعَلنا من المُتَّقينَ، ومن الصَّالِحينَ المُصلِحينَ. آمين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 29 /رمضان /1434هـ، الموافق: 7 /آب/ 2013م