22 ـ دروس رمضانية: الدنيا سجن المؤمن

 

 22 ـ دروس رمضانية: الدنيا سجن المؤمن

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

أيُّها الإخوة الكرام: من أرادَ اللهُ تعالى به خَيراً زَهَّدَهُ في الدُّنيا، وفَقَّهَهُ في الدِّينِ، وبَصَّرَهُ بِعُيوبِ نَفسِهِ، لأنَّ العَبدَ إذا اشتَغَلَ بِعُيوبِ نَفسِهِ زَكَّاها، وإذا تَفَقَّهَ في الدِّينِ كانَ على بَصيرَةٍ من أمرِهِ، وإذا زَهِدَ في الدُّنيا أقبَلَ على الآخِرَةِ، وعَمِلَ لما بعدَ الموتِ.

وهذا شأنُ العُقَلاءِ، كما جاءَ في الحديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام أحمد والترمذي عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى الله».

وكانَ سيِّدُنا عليٌّ رَضِيَ اللهُ عنهُ يَقولُ: ارْتَحَلَت الدُّنْيَا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَت الْآخِرَةُ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ، وَغَداً حِسَابٌ وَلَا عَمَلٌ. رواه الإمام البخاري.

الدُّنيا سِجنُ المؤمنِ:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد تَرَكَنا سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على المَحَجَّةِ البيضاءِ، لَيلُها كَنَهارِها، لا يَزيغُ عنها إلا هالِكٌ، من جملَةِ ما تَرَكَنا عليه، أنَّهُ عَرَّفَ المؤمنَ على حَقيقَةِ الدُّنيا بالنِّسبَةِ إليهِ، وبالنِّسبَةِ لِغَيرِ المؤمنِ.

روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ».

وهذهِ هيَ الحَقيقَةُ التي لا رَيبَ فيها، فالإنسانُ المؤمنُ في الحَياةِ الدُّنيا ليسَت يَدُهُ مُطلَقَةً فيها، فهوَ مَمنوعٌ فيها عن الشَّهواتِ المحَرَّمَةِ والمَكروهَةِ، وهوَ مُكَلَّفٌ بِفِعلِ الطَّاعاتِ التي قد تَأباها النَّفسُ الأمَّارَةُ بالسُّوءِ، فَيَحمِلُها على المُجاهَدَةِ.

فالمؤمنُ في الحَياةِ الدُّنيا مُقَيَّدٌ بِقُيودِ الشَّرعِ، أحَلَّ اللهُ تعالى له بَعضَ الأمورَ، وحَرَّمَ عليه بَعضَها الآخَرَ. هذا أولاً.

ثانياً: الإنسانُ المؤمنُ تَتَوالى عليه المِحَنُ والبَلايا والمُكابَداتُ والهُمومُ والغُمومُ والأسقامُ، كما قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾.

ثالثاً: كُلَّما عَظُمَ الإيمانُ اشتَدَّ البَلاءُ، وصَدَقَ اللهُ تعالى القائِلُ: ﴿ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُون * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِين﴾.

ويَقولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِنْدَما سألَهُ سَعْدٌ رَضِيَ اللهُ عنهُ: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟

 فَقَالَ: «الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسْبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ رَقِيقَ الدِّينِ ابْتُلِيَ عَلَى حَسْبِ ذَاكَ، وَإِنْ كَانَ صُلْبَ الدِّينِ ابْتُلِيَ عَلَى حَسْبِ ذَاكَ، فَمَا تَزَالُ الْبَلَايَا بِالرَّجُلِ حَتَّى يَمْشِيَ فِي الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» رواه الإمام أحمد.

رابعاً: المؤمنُ دائِمُ الخَوفِ، لا يَدري على أيَّةِ حالَةٍ يُختَمُ له من عَمَلٍ، ولذا كانَ من دُعاءِ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» رواه الإمام أحمد عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

هذا الخَوفُ نابِعٌ من قَولِهِ تعالى: ﴿مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُون * وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُون﴾.

من خِلالِ هذا يَعلَمُ المؤمنُ أنَّهُ في الحَياةِ الدُّنيا في سِجنٍ، وكُلُّ سَجينٍ يَرجو الخَلاصَ من سِجنِهِ، ولكن من رحمَةِ الله تعالى أنَّهُ يُهَوِّنُ على عَبدِهِ ذلكَ كُلَّهُ بما وَعَدَهُ على صَبرِهِ، وبالعاقِبَةِ الحَميدَةِ التي سَيَؤولُ إليها، قال تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوَّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين﴾.

أمَّا العَبدُ الكافِرُ:

أيُّها الإخوة الكرام: أمَّا العَبدُ الكافِرُ في الحَياةِ الدُّنيا في جَنَّةٍ حَسبَ الظَّاهِرِ، لا شيءَ يُقَيِّدُهُ، الكُلُّ عِندَهُ حلالٌ، فلا يُحَرِّمُ ما حَرَّمَ اللهُ تعالى عليه، ولا يَضبِطُ نَفسَهُ بِضَوابِطِ الشَّريعَةِ.

وهذا العَبدُ يُملي له ربُّنا عزَّ وجلَّ، قال تعالى: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِين﴾. وقال تعالى: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُون﴾. بل قال تعالى: ﴿وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُون * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُون * وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِين﴾.

مَوتُ المؤمنِ راحَةٌ لهُ:

أيُّها الإخوة الكرام: الحَقيقَةُ التي لا رَيبَ فيها هيَ أنَّ المؤمنَ في الدُّنيا في سِجنٍ، لأنَّ نَعيمَها فيه مُنَغِّصاتٌ، وبالنِّسبَةِ للكافِرِ هوَ في جَنَّةٍ، لذا لو خُيِّرَ العَبدُ المؤمنُ بينَ البَقاءِ في الدُّنيا والارتِحالِ إلى الآخِرَةِ لاختارَ ما عِندَ الله تعالى.

لذلكَ فالموتُ راحَةٌ للمؤمنِ من عَناءِ الدُّنيا وتَعَبِها، ويَنقَلِبُ إلى ما أعَدَّ اللهُ تعالى له من النَّعيمِ الدَّائِمِ والرَّاحَةِ من المُنَغِّصاتِ، وأمَّا العَبدُ الكافِرُ فَبِمَوتِهِ يُستَراحُ منهُ ويَنقَلِبُ إلى العَذابِ الدَّائِمِ والشَّقاءِ المُؤَبَّدِ.

روى الشيخان عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ فَقَالَ: «مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ».

قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟

فَقَالَ: «الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ».

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوةُ الكرامُ: الدُّنيا ظِلٌّ زائِلٌ، وعَرَضٌ حائِلٌ، وخَيالٌ زائِرٌ، وهيَ كما قال تعالى عنها: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرَّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً﴾. وهيَ سِجنٌ للمؤمنِ لأنَّهُ مُقَيَّدٌ فيها بِقُيودِ الشَّرعِ.

أمَّا الكافِرُ فالدُّنيا بالنِّسبَةِ له جَنَّةٌ، لأنَّهُ ليسَ له قَيدٌ فيها، وأمَّا إذا انقَلَبَ المؤمنُ إلى الآخِرَةِ ورأى فيها ما لا عَينٌ رَأت، ولا أُذُنٌ سَمِعَت، ولا خَطَرَ على قَلبِ بَشَرٍ من نَعيمٍ، فإنَّهُ يَعلَمُ حَقيقَةً أنَّهُ كانَ في سِجنٍ.

وأمَّا العَبدُ الكافِرُ عِندَما يَنقَلِبُ إلى الآخِرَةِ ويَرى فيها ما لا عَينٌ رَأت، ولا أُذُنٌ سَمِعَت، ولا خَطَرَ على قَلبِ بَشَرٍ من عَذابٍ، فإنَّهُ يَعلَمُ حَقيقَةً أنَّهُ كانَ في جَنَّةٍ.

وبِئسَت جَنَّةٌ يَعقِبُها عَذابٌ مُقيمٌ، وسِجنٌ بَعدَهُ نَعيمٌ دائِمٌ ليسَ بِسِجنٍ.

اللَّهُمَّ أخرِجنا من هذهِ الحَياةِ الدُّنيا على أحسَنِ حالَةٍ تَرضاها لنا يا ربَّ العالمينَ. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 22 /رمضان /1434هـ، الموافق: 31/تموز/ 2013م